د. حمزة السالم
لأكثر من عقد من الزمان عشت فكراً وروحاً اتنقل بين جامع طريف، أزاحم على دروس الأئمة من أمراء آل سعود وفقهاء نجد، وبين غزوات أهل التوحيد وبيوتات الدرعية الأولى. وأما حياتي فقد قضت ذلك العقد في صحراء ما، إما بين ميادين التدريب أو المشاريع العسكرية، وما عدا ذلك فعند المسجد الحرام أقطع الليالي المباركات قياماً وطوافاً بالبيت العتيق. عشت منعزلاً عن الناس لا أتوقف عن تلاوة القرآن إلا لقراءة صحيح أو سماع حديث.
وجاءت حرب الخليج، وما أخافني الموت قط، بل كنت حينها أتمنى الموت شوقاً للقاء ربي، فكان همي أن أعجل بختم حفظ القرآن قبل أن تعجل بي رصاصة أو شظية. والعجيب أنه على قدر ذلك الورع والتقى لم يخالجني تساؤل قط في شرعية القتال، فإذا بي بعد أن ختمت القرآن في الجبهة، أتشوق للشهادة وأسعى لها. وعدت وقد ازددت زهداً في الدنيا، فقررت الاستقالة لأجاور البيت العتيق. وما من مال عندي حينها، فقد مرت بي سنوات أضع راتبي كله لمجاهدي أفغانستان. استقلت من عملي وفي رقبتي عائلة، زوجة وأربعة أطفال، لم أحمل هم إطعامهم وإيوائهم.
ومن لطف اللطيف أن قدر فستر، فأدرى عمي عبد العزيز - حفظه الله - فأخذني بالسياسة والحكمة وتعهدني بماله وجاهه، فأعادني لعملي، ثم عمل على توفير بيئة عمل مناسبة لتوجهاتي الشرعية. ودارت الأيام والأحداث بعدها سريعاً لتنتهي بمواقف ضيقت عليَّ فرص البقاء في عملي، فرأى عمي - حفظه الله - أن يبعدني فقال لي مقولة لم أنساها: قال «إني أرى لك عقلاً ولكن يحتاج إلى تهذيب، فاذهب إلى أمريكا لتكمل دراساتك العليا».
إلى أمريكا؟ وأنا كنت قد عاهدت نفسي أن لا أخرج لدولة عربية، فقد كنت أؤمن أنه ما من بلاد تخلو من البدع إلا ديارنا، فكيف ببلاد الفرنجة الذين لا يؤمنون بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. وقد كانت أيادي عمي عبد العزيز عليَّ كثيرة، ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا. ولم يكن رأي العم حينها مشاورة بل كان إخباراً.
ولا أنسى ضيق النفس وألمها الذي عصرني حين حطت الطائرة على مدرج نيويورك، وكأن عجلاتها حطت على صدري.
وفي نيويورك كان ابن خالي في انتظاري ليأخذني وزوجتي الحامل في شهرها السابع وأطفالي الأربعة لمدينة بوسطن، حيث كان قد عمل على حصول قبول لي لدراسة اللغة في إحدى جامعاتها.
وفي دراسة اللغة كانت الآلام تعتصرني وأرى أنها العقوبة التي أبدلتني بمشايخ الفقه والحديث مدرسات غانيات حسنوات، وأبدلتني بإخوة العقيدة زميلات فاتنات متميلات. وعموماً، لم تتغير حياتي كثيراً في مرحلة اللغة ومرحلة الماجستير، فقد كنت ملازماً للمسجد أقيم فيه دروس العقيدة والفقه وتحفيظ القرآن. ولكن الأمور تغيرت عند بدء مرحلة الدكتوراه. فلم أتعود قط في حياتي على مرتبة أقل من مرتبة الشرف والامتياز. وقد اهتزت هذه المرتبة مع أول فصل دراسي في مرحلة الدكتوراه. وكم سولت لي نفسي العودة إلى الديار، ولكن وصية عمي لي ذكرتي بتعبيرات وجهه وهو يرجوني بقوله «لا تفشلني مع الأمير نايف»، وقد كان الأمير نايف - رحمه الله - هو الذي أمر بابتعاثي على حسابه بناء على وصية العم وتزكيته لي. وقد عملت تلك الوصية عملها فيَّ فحبستني على الدرس، فلم أغادر الكتاب لا في إجازة صيف ولا في غيرها حتى تجاوزت السنة الأولى، وبدأت أجد نفسي بعدها قادراً على اللحاق في السنة الثانية، ثم السبق بعد ذلك والاستقلالية. وللحديث بقية.