إبراهيم عبدالله العمار
سؤال العنوان هو أحد أجزاء كتاب «دروس التاريخ» للمؤرِّخ ويل دورانت ، والذي لخص فيه كتابه «قصة الحضارة» والذي يدون فيه التاريخ الغربي ويقع في 10 آلاف صفحة، وفي «دروس التاريخ» رأينا في هذا العمود بعض أجزائه، وأعجبني الكتاب لأنه يمر على آلاف السنين المسجلة ويستخلص منها العِبَر، منها سؤال يبدو سهلاً لكنه أصعب مما تظن، وخذه مرة أخرى: هل التقدم والنهضة البشرية .. حقيقة؟
قد تقول: نعم! لا شك! نحن لدينا تقنية أفضل من قبل بمراحل! لكن الإجابة أعقد من ذلك.
يقول دورانت إنه على كثرة التغييرات في الظروف والأحوال والأخلاق البشرية فإن طبيعة الإنسان لا تتغير، لذلك فكل التطورات التقنية التي نعيشها اليوم ليست إلا وسائل للبشر ليكملوا السير على طبيعتهم: الحصول على المال والنساء، التفوق في المنافسة، الانتصار في الحروب. من الاكتشافات المحبطة في القرن الماضي هي أن العلم محايد: إنه يقتل بنفس الكفاءة التي يعالج بها المرضى، ويدمر أعظم مما يبني، لهذا فمقولة «العلم قوة» خاطئة. لعل أهل العصور الوسطى أكثر منا حكمة عندما ركزوا على الفن والأساطير أكثر من العلم والقوة! إنّ تقدُّمنا في العلم جلب بعض الشر مع الخير، فالراحات التي نعيشها أضعفتنا جسدياً وأخلاقياً. صنعنا وسائل لتسهيل الحركة واستخدمناها في قتل البشر. زدنا سرعتنا ولكن أحرقنا أعصابنا. ضاعفنا مئات المرات قدرتنا على نقل الأحداث من كل العالم لكن نغبط أجدادنا الذين عاشوا في راحة بال ولم يقلقهم إلا الأخبار البسيطة في قريتهم.
إذاً هل تقدَّمنا حقاً؟ علينا تعريف كلمة «تقدُّم» أولاً. هل تعني زيادة السعادة؟ إذا كان هذا هو التقدم فالإجابة «لا»! وهذا فشل ذريع لحالنا الذي نسميه تقدماً، فمهما كانت العقبات التي نتخطاها بالتقنية والراحات التي نحصل عليها فإننا سنظل دائماً نجد أسباباً لنشعر بأشد البؤس. هنا سنعرّف التقدم على أنه قدرة الكائن على التحكم بالبيئة والطبيعة. حسب هذا التعريف فإننا ولا شك أفضل بكثير من أي عصر سابق، فالأعمار زادت، والأمراض زال أكثرها، والجهل أقل، وصار الملايين أكثر علماً وخلقاً من جميع العصور السابقة. قد نأخذ أحياناً نظرة رومانسية تجاه بساطة الحياة السابقة إلا أنها نظرة غير واقعية، فالعلم وجد أن بعض القبائل التي عاشت في أزمان بعيدة عانت من وفيات الأطفال الكثيرة وقصر العمر وضعف الجسم وسرعة التأثر بالمرض. في عصرنا زالت المجاعات وصارت الدول تزرع ما يكفيها. يقول دورانت: «العلم والتقنية اللذان نلومهما على بعض المآسي أراحتنا من تسلط الكنيسة والخرافة والظلامية وجلبا لنا الطعام ومُلكية المنازل والدعة والتعليم بشكل لم يره التاريخ».
كل حضارة ستزول لا محالة. لكن لا يجب أن نحزن عندما نعلم أن حضاراتنا المعاصرة ستزول مثل أي حضارة أخرى، لكن كما قال الملك الألماني فردريك الثاني لجنوده الفارين من معركة كولين: «وهل ستعيشون للأبد؟». ربما الأفضل أن الحضارة تأخذ صوراً أخرى وتعيد تشكيل نفسها، فالحضارات لا تموت وإنما تعيش بطرق أخرى، فهناك إنجازات عاشت رغم مشقة الظروف وأحداث الحياة مثل صنع النار والعجلة واللغة والكتابة والفن والزراعة والتنظيم الاجتماعي وتعليم هذه الأشياء للغير. إذا كان التعليم يمرر الحضارة فنحن ولا شك متقدمون، فالحضارة لا تُكتسب بل يجب على كل جيل تعليمها لمن يليه، لهذا علينا أن لا ننظر للتعليم على أنه مجرد حشر وتكويم للأرقام والحقائق في عقولنا بل على أنه اكتسابنا للحضارة من الجيل السابق.
لهذا كله علينا أن لا نبتئس عندما نقرأ التاريخ ظانين أنه ليس إلا خربة مليئة بالأهوال والجهل والشناعات، بل هو حديقة فيها الفنون والتجارب والمصلحين والمخترعين والعلماء والشعراء والذي لا زالوا أحياء بما خلفوه من إرث فني وأدبي وثقافي، وهذه هي نظرة التفاؤل المطلوبة.