د. محمد عبدالله العوين
لم يكن «مسفر» يسمع كثيراً عن جاهلية مجتمعه قبل أن يلتحق بالجماعة ويتودد إليه قياديها بطريقة تمثيلية ماهرة جذبته إليها، وابتدأ يحضر جلساتها المنزوية المختبئة بعيداً عن أعين أبيه وأخيه الأكبر اللذين لم يكونا مرتاحين أبداً لمعلمه القادم لتوه بعد أن أنهى سنوات دراسته الجامعية وعيِّن للتدريس في ثانوية القرية.
كانت اللقاءات تتم في واد منبسط تحت قمم الجبال العالية، وتمر كلمة الجاهلية الجديدة مندفعة من فم المعلم كخنجر حاد انفلت للتو من غمده، وقد انتظمت حلقة الشبان حوله مطأطئي الرؤوس في طاعة عمياء!
ارتعد القيادي وانتفض وأرعد وأزبد وهو يرمي سهامه يمنة ويسرة على رموز مجتمع القرية الذين لم ينكروا ما أنكر، ولم يتقبلوا ما كان يظهر بعضه من أفكار تثير الفزع والاضطراب والتوجس.
لم يكن المعلم القيادي لحلقة الشبان الناشئين على هذا النحو من الشطط في التفكير، والحدة في الإنكار والقسوة في إبداء الرأي، والنقمة على الواقع، قبل أن يدع قريته منذ سنوات للدراسة؛ بل كان شأنه شأن سائر شبان القرية الوادعين الذين ينشؤون في مجتمع فطري طيب مسالم؛ ولكن أهله وجيرانه ومعارفه أنكروه حين عاد؛ فقد اختفت من ملامح وجهه تلك السماحة التي نشأ عليها، وتلك الابتسامة التي تعوّدوها منه، وتلك العبارات المحيية الندية حين يقابلهم ؛ فنفروا منه ونفر منهم، أو زهدوا فيه وزهد فيهم؛ بيْد أنه حين يئس من أهله وجيرانه ومعارفه ممن يكبرونه سناً وخبرة بالحياة واستمساكاً بقيم أصيلة تشرّبوها، انصرف عنهم إلى شبانهم وناشئتهم، وأصبح يختلس الفرص السانحة اختلاساً للخلوة بمن يظفر به منهم بين الأودية النائية متوارياً خلف سفح جبل، أو منزوياً بهم بين كثافة أشجار البراري الملتفة، فيلتقط من شبان القرية خمسة أو سبعة، أو ربما حين يجد في البحث والإغواء يتحلّق حوله عشرة من الغلمان الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والثامنة عشرة، وكان «مسفر» واحداً ممن أغواه القيادي الذي نصب نفسه لاحقاً أميراً عليهم، واستلب لبه بادئ الأمر بكلمات معسولة مفخمة لطيفة مُطرِية، لم يسمعها قبل من أبويه أو ممن يكبره سناً من إخوته وتفعل في داخله فعل السحر، لقد لقّبه أمير الجماعة بلقب انتحله له وأراده أن ينسيه اسمه القديم الذي عرفه به الناس؛ فلم يعد ذلك المسفر؛ بل أصبح «أبوحمزة الأزدي» كما هو شأن ألقاب لداته من الشبان الذين تحلّقوا حول قياديهم المفوه الممتلئ كلاماً وأفكاراً ورؤى وأحاديث وأحكاماً، وتفسيراً لما يحدث من شائك السياسة وعويص الصراعات في العالم، لا يملك أحد في القرية له تفسيراً ولا شرحاً ولا تعليلاً كما يسمعه متدفقاً منثالاً من هذا القيادي الذي سلب لبه!
شعر « أبو حمزة الأزدي» الذي كان «مسفر» قبل أن يتحول وينقلب على نفسه، أن الفترة التي قضاها في حضرة المعلم الموجه كوّنته وخلقت منه إنساناً آخر؛ فلم يعد ذلك الأبله الساذج كما كان ينظر إلى نفسه؛ فقد اكتشف فيه القيادي شخصية أخرى مختلفة، ونفخ فيه إلى أن كاد يتفجر طاقة وقوة واندفاعاً وطموحاً، إلى أن يكل إليه أميره مهاماً يجد في نفسه الكفاءة المطلقة لأدائها على خير وجه تلميحاً لا تصريحاً، بيْد أنه لا زال وجلاً وخائفاً وقلقاً من أن يصارح أبويه وإخوته بانحرافهما عن الطريق السليم كما تلقى من أمير جماعته. معلمه في حقيقة الأمر لم يقل انحرافاً؛ بل قال أكبر من ذلك؛ لكنه يريد أن يخفف على نفسه ثقل إطلاق الكلمة التي لم يتقبّل إطلاقها بادئ الأمر على أهله!
لقد قال له : إننا نعيش وسط مجتمع جاهلي كافر أو مرتد! .. يتبع