د. محمد بن إبراهيم الملحم
تعرضت في مقالي السابق إلى مشكلة التدريس في الهجر والقرى البعيدة وتناولت 3 مشكلات: مخاطر سفر المعلم/ المعلمة لمسافات بعيدة، وكونهم مستجدين غالبا مما يقلل كفاءة التعليم بالهجر، وأخيرا قلة سكان تلك الهجر مما يعرض المدارس للإغلاق إذا نقص عدد الطلاب عن الحد النظامي الأدنى أو حتى عدم افتتاح المدرسة في الأصل مما يفاقم مشكلة الأمية خاصة في تعليم البنات.
وتنوع هذه المشكلات في موضوعها يعني احتياجها لثلاثة حلول، بيد أني سأقدم هنا حلا واحدا يشمل الجميع ولا أدعي فيه الكمال لكنه يخفف منها كلها معا في آن واحد وفوق ذلك يرفع جودة تعليم الهجر مع احتمال توفير الإنفاق أيضا.
كنت قدمت هذا المقترح لمقام الوزارة إبان عملي فيها وأحيل إلى لجنة مختصة بالهجر. وقد استقيته من التجربة الأسترالية، حيث يوجد واقع مشابه للسكان الأصليين المترحلين Indigenous ، فقد أنشأت مدارس التعليم عن بعد Distance Learning Schools ووظفت فيها تقنيات الإنترنت والاتصال الفضائي بشكل هائل، وفوق ذلك تقنيات التصوير عالي الجودة والشاشات المكبرة والكاميرات الوثائقية ولاقطات الصوت الحساسة جدا، كل هذه التقنيات مكّنت معلما واحدا في مدينة كبيرة مثل الرياض أو جدة أو الدمام أن يدرس عددا من الطلاب يسكنون في هجرة أو قرية نائية من خلال نقل صورته وصورة السبورة إليهم (أمام الطلاب شاشتين) ونقل صورتهم وصورة السبورة التي أمامهم إليه (أمامه شاشتين لهم). بل يمكن أن يكون أمامه شاشات متعددة لأكثر من فصل فتنقل إليه كل شاشتين منها طلاب الفصل في مدرسة مختلف موقعها جغرافيا عن الأخرى فهو يدرس 3 فصول أو 4 أو 5 من عدة مدارس مختلفة في آن واحد، إذ قد يكون هناك 3 أو 4 طلاب فقط بمدرسة واحدة، فالعبرة بجعل إجمالي العدد الذي أمامه 20 طالبا مثلا.
وبهذا النموذج سيتواجد بمبنى المدرسة التي في الهجرة معلم واحد فقط أو حتى إداري تم تدريبه ليتولى تشغيل الأجهزة وضبط النظام والغياب وما إلى ذلك من الشئون اليسيرة. أما المعلم الذي يدرس هؤلاء عبر البث المباشر فهو في المدينة وبالتالي لن يكون معلما مستجدا كما في النموذج الحالي بل من القدامى ذوي الخبرة وذلك لعدة اعتبارات:
أولا: لأنه سيتدرب على مهارات التدريس عن بعد وبالتالي سيدعى «معلم عن بعد» وبهذا سيحصل على مكافأة تشابه مكافأة معلمي التعليم الخاص لما يتطلبه عمله من جهد نوعي إضافي.
ثانيا: لأن أثره سيمتد إلى قطاع عريض من الطلاب فإنه سيبذل جهدا مضاعفا في تجويد عمله، لا سيما أن ما يقدمه من دروس سيكون مسجلا بالكامل فيمكن للمشرفين التربويين الرجوع إلى التسجيل لتحديد أفضل الدروس ليتم بثها عبر موقع الوزارة ليستفيد منها أولياء الأمور بكل المملكة (لا في الهجر فقط) لتدريس أبنائهم، وكذلك يستفيد منها الطلاب أنفسهم بالنسبة للمراحل المتوسطة والثانوية. وهذا يقدح التنافس بين هذا الصنف من المعلمين (المعلم عن بعد) لتقديم أفضل درس ممكن ليبث عبر الإنترنت.
ثالثا: حيث ذكرنا أن التدريس كـ»معلم عن بعد» له مكافأة مالية كان لازما أن يحظى به المجتهدون من المعلمين القدامى الذين بنوا الخبرة وصقلوها عبر الزمن، وهذا مكسب إضافي لصالح مدرسة المدينة التي يدرس بها عامة المعلمين فيتنافسوا لينالوا الترشيح لهذا النمط من التدريس بعد أن يرتقوا بمستواهم المهني.
كما قلت إني لا أدعي الكمال لهذا النموذج لكنه جدير بالتجربة والدراسة والتقييم مع تحليل التكاليف ومقارنتها بالنموذج التقليدي الحالي إذ إني اتوقع انخفاض التكلفة، وحتى لو لم تنخفض فإن تجويد التعليم في الهجر بهذه الطريقة مع وقف نزيف حوادث معلمي ومعلمات الهجر وتوفير التعليم للهجر الصغيرة جدا ومنع الأمية كلها مكاسب لا تقدر بثمن.