قاسم حول
تجربة في ثقافة المشاهدة السينمائية تأسست في عمّان بالمملكة الأردنية الهاشمية هي تجربة «الميناء» والميناء حيث ترسو وتستقر فكرة الوصول إلى الهدف. ولعل اقتصار هذه المؤسسة على مشاهدة وتوزيع الأفلام على الوثائقية منها هو إدراكٌ منها لأهمية السينما الوثائقية التي ابتلعها التلفزيون أو يكاد، كما تقلّصت مهرجانات الفيلم الوثائقي ويخاف عليه من أن يبتلعه التلفزيون بشكل كامل.
في بداية الخمسينات وبالتحديد في العام 1955م وفي الطابق الخامس من صالة سينما الكابيتول في مدينة لايبزغ الألمانية اجتمع عدد من مبدعي السينما الوثائقية ومن النقاد وهم: «يورس إيفنز الهولندي، وجريرسون البريطاني، سانتياغو الفارز الكوبي، وكريستنسن الدنماركي، والأخضر حامينا الجزائري، ورومان كارمن الروسي، وكارل كاس الألماني، وأنيلي تورينداك الألمانية، وعدد من النقاد السينمائيين، وقرروا أن يكون الفيلم التسجيلي هدف لقائهم في إقامة أهم مهرجان للسينما التسجيلية الوثائقية.
وكتبوا إلى الرسّام العالمي «بيكاسو» كي يوافق على أن يتخذوا من لوحته «الحمامة» جائزة للأفلام المتسابقة وركزوا على نقطتين أساسيتين: الأولى أن أسبوع الأفلام التسجيلية في لايبزغ يجب أن يتقرر من قبل المخرجين التقدميين في العالم، أولئك الذين اتخذوا موقفاً في العملية الثورية العالمية والذين يؤمنون ويمارسون نضالَهم في سبيل دعم الفيلم التقدمي وإزالة العراقيل التي تحول دون تحقيقه، وثانيا: أن مدينة لايبزغ تقدم للمخرجين الشباب من البلدان النامية فرصاً كبيرة.
وهكذا تمكَّن السينمائيون والإدارة التي تمثلت بـ «هركنتال» ومن ثم «رونالد تريش» أن يجعلوا من السينما التسجيلية تظاهرة ثقافية ساهمت في بلورة مفردات لغة الفيلم الوثائقي وأصبح لهذا النوع من المهرجان حاضنة ترعاه وتطوره وتدعمه معنوياً وأحيانا مادياً. لكن أفول تجربة ألمانيا الديمقراطية انعكست على هذا المهرجان، ولم يعد له ذلك الألق بعد سقوط تجربة ألمانيا الاشتراكية، فحاولت بعض المصارف الألمانية دعم المهرجان ولكن بقي غير ذي شأن. وبتطور العملية التلفزيونية والفضائيات كاد الفيلم الوثائقي أن يدخل في إطار البرامج التلفزيونية وفيلم الريبورتاج، ونستثني من ذلك قناة «ناشيونال جيوغرافيك» التي ترعى باهتمام بالغ الفيلم السينمائي الوثائقي وتعمل على تطويره ودعمه والتي أصبح لها جمهور كبير يتابع ما تعرضه لهذا النوع من الأفلام.
بعض السينمائيين وفي المقدمة منهم السينمائي الروسي «ديزيغا فيرتوف» يعتبر أن السينما هي الفيلم الوثائقي. وحقيقة الأمر أن من يعرف أبعاد الفيلم التسجيلي ويستوعب مفردات لغته السينمائية التعبيرية، يدرك أن للفيلم التسجيلي نكهة خاصة في التلقِّي، وهنا جاءت فكرة مؤسسة الميناء لعرض الأفلام التسجيلية التي انطلقت من عمّان في المملكة الأردنية الهاشمية. هذه المؤسسة حظيت بدعم ممتاز من قبل مؤسسة شومان الثقافية والتي تشكّل السينما جانباً هاماً منها ويشرف عليها الناقد الكبير «عدنان مدانات» وينظم لها العروض الأسبوعية، وفي تشرين أول الماضي أقامت مؤسسة شومان مهرجاناً واحتفالاً بذكرى مرور ربع قرن على تأسيسها.
توجهت بالسؤال لصاحبة الفكرة ومديرة المركز «ريم بدر» كيف خطرت على بالكم فكرة إنعاش الفيلم التسجيلي، وما هي الخطوات التي قمتم بها لإيصال الأفلام التسجيلية العربية إلى المشاهد العربي وأيضا غير العربي؟ قالت السيدة ريم: «أنا وزملائي في الأردن وقبل ما يقرب من ست سنوات كنا نقيم ورشاً للتصوير والمونتاج، وكانت حينذاك معرفتنا السينمائية متواضعة لكننا وخلال تلك الدورات السينمائية التي كنا نستهدف منها خلق ثقافة الإبداع السينمائي، جعلنا نكتسب خبرة لا بأس بها في هذا المجال.
كل السينمائيين الذين شاركوا في تلك الورش السينمائية من التصوير والمونتاج وهندسة الصوت وكتابة السيناريو أدركوا أن أهم مشكلة تواجههم وبشكل خاص في إنتاج الفيلم القصير أو الوثائقي هي مشكلة التوزيع، حيث الفيلم لا يحظى بالعروض النظامية للجمهور. من هنا جاءتنا فكرة نشر ثقافة توزيع المنتج السينمائي ومحاولة رفد الأفلام بأجور مشاهدتها مثل ما يدفع الجمهور ثمن التذكرة لمشاهدة الأفلام الروائية في صالات السينما، فإنه يدفع أقل من هذا الثمن لمشاهدة الأفلام الوثائقية عبر شبكة الإنترنت.
مؤسستنا الجديدة هذه سوف توفر للمشاهد فرصة مشاهدة الأفلام الوثائقية الهامة التي لا يستغنى عنها، لما تحمله من أفكار تعكس الواقع، وأيضا صيغة الفيلم الوثائقي الجيد. الآن موقعنا تحت التجريب، وهو قريبا سوف يأخذ شكله الاحترافي وسوف يستطيع الجمهور أن يشاهد أفلاماً وثائقية عربية هامة، مقابل مبلغ سيعود نصف ريع كل فيلم إلى صاحب الفيلم والمتبقي يغطي تكاليف المشروع.
إنها فكرة مدهشة في تعميم ثقافة الفيلم التسجيلي عربياً وإيصاله لجمهور الغرب، فجمهور الغرب سينمائياً يهتم بالفيلم الوثائقي التسجيلي العربي أكثر من اهتمامه بالفيلم الروائي العربي. لأسباب كثيرة لعلَّ في مقدمتها صدق العلاقة بالواقع وعدم قدرة الفيلم العربي حتى الآن من استيعاب لغة التعبير السينمائية «القياسية» خاصة الروائية منها.