رقية سليمان الهويريني
قبل أكثر من عشرين عامًا رحلت روح والدتي إلى بارئها راضية مرضية بعد معاناة شديدة من مرض السرطان، ولم أكن أتوقع أن تفتر في وجهي ابتسامة بعد رحيلها، أو يغشاني الفرح بفقدها، فقد خيم الحزن على مزاجي، وعم الشجن خاطري، ولكن التسليم بقضاء الله وقدره أعظم علاج للنفوس المكلومة. وأيًا كان ألم فقدها فقد كان رحيلها الصامت ومغادرتها دنيانا أمرًا متوقعًا، حيث كان مرضها مستعصيًا برغم طرْقِنا لأبواب العلاج، وكان قدر الله حتمًا مقضيًا.
أقول ذلك بعد فجيعتي مؤخرًا بمقتل والدة الشابين الداعشيين التي أصابتني بالدهشة والصدمة والألم، فلم أكن أتوقع قط أن يقوم شاب بقتل أمه أو حتى يمتنع عن إسعافها أو يقصّر في علاجها، فكيف بولدين عاقين يقومان بذبح أمهما بسكين حادة وتقطيع جسدها الطاهر في شهر رمضان الكريم؟!
لم أزل في طور الصدمة ومرحلة الألم وأنا أسمع الخبر! وزادت قسوة المصيبة حينما رأيت مشهد منزلها وآثار الدماء التي اصطبغت بها الأرض! وتخيلت شكل الأم قبل تسعة عشر عامًا وهي تتحمل ثقل الحمل بتوأم وعمرها في الخمسين، وتصورت وجع المخاض والولادة ثم لحظة الاستبشار بمولودين من الذكور في مجتمع يفضلهم على الإناث ويفرح الناس بمقدمهم!
يقودني الخيال لاسترجع منظر الأم وهي تُرضع طفليها بالتناوب كيلا تزيد حصة أحدهما عن الآخر! وكيف تحملت وهي كبيرة السن مداومة تنظيف أبنائها اليومي ومتابعة إطعامهما وإلباسهما وحرصها على أخذهما جرعات التطعيم كيلا يصابا بإعاقة أو شلل، ثم مراجعة المستشفيات وسهر الليالي والاستيقاظ من لذة النوم، ثم متابعة إدخالهما المدرسة والإشراف على تدريسهما وذهابهما وإيابهما والمذاكرة لهما!
وأجزم أنها كانت تنتظر تخرجهما من الجامعة وربما كانت تستمتع بالحديث معهما عن نوع التخصص الدراسي، وأزعم أنها كثيرًا ما كانت تسعى لفض النزاعات الأخوية الطارئة، وتتظاهر بسخطها عليهما إن لم يتصالحا.
وإني على يقين أنها في ذلك اليوم الرمضاني توجهت بسؤالهما عن رغبتهما في نوع وجبة الإفطار كأي أم تسعد بسؤال أسرتها وتحرص على تحقيق رغبة الجميع!
ولكن، في ذلك اليوم حتمًا لم يمهلها فلذتا كبدها أن تسألهما عن نوع وجبة السحور!
فقد غدرا بها، وذبحاها!
فرحلت قبل أن تسأل!
غادرت وتركت في قلبي حسرة!
رحلت وأودعت في كبدي وجعًا!!
يا وجعي، يا جرحي الذي لن يندمل.
لأنه وقع بفعل أشخاص قد يكوّنا من جسد أمٍّ وخلاياها ودمها، وولِدا ساعة انسكب فيها عرق وتتصبب بغزارة في لحظة مخاض يغيب فيها الوعي!!