نجيب الخنيزي
مع أنه لا يمكن إنكار وإغفال المنجزات المهمَّة التي تحققت في العالم العربي منذ خمسينات القرن المنصرم، على طريق تعزيز واستكمال التحرر والاستقلال الوطني، مثل تصفية القواعد العسكرية الأجنبية، واتخاذ خطوات ملموسة على صعيد التحرر الاقتصادي من تصفية مواقع الإقطاع وتطبيق الإصلاح الزراعي وتأميم الاحتكارات والمصالح الأجنبية (قناة السويس، النفط، الشركات والبنوك) واعتماد خطط طموحة لتطوير الصناعة والتعليم ومكافحة الأمية وتحرير المرأة والالتزام بالقضية الفلسطينية وانتهاج سياسة عدم الانحياز، وبلوغ المد الوحدوي ذروته إبان زعامة جمال عبد الناصر الذي امتاز بشخصيته الكارزمية ووطنيته وتوجهاته القومية الأمر الذي أهَّله لإقامة أول وحدة اندماجية (بصورة طوعية) بين بلدين عربيين (1958م)، غير أن الوحدة المصرية - السورية سرعان ما انهارت وحدث الانفصال 1961م إثر انقلاب عسكري قاده نفر قليل من الضباط السوريين.
فشل الوحدة المصرية - السورية والتورط المصري في أحداث اليمن وهزيمة يونيو 1967م إلى جانب ما تكشف عن الممارسات القمعية والفساد وتهميش وإقصاء الشعب عن المشاركة في تقرير مصيره وبناء مستقبله ليس في مصر وحدها بل في جميع الدول التي حكمتها أنظمة شمولية، أدَّى إلى انكفاء وتراجع وهج الوحدة والفكرة القومية والنكوص عن كافة المنجزات التي تحققت في مصر إثر وفاة عبد الناصر.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا لم تستطع الجماهير التي نزلت بالملايين إلى الشوارع للضغط على عبد الناصر ليسحب استقالته إثر هزيمة يونيو 1967م، وتكرر المشهد أثناء جنازته، من حماية إرث عبد الناصر والدفاع عن منجزاته التي تعرضت للتصفية على يد السادات وحفنة صغيرة من الملتفين حوله؟
مثَّلت التجربة الناصرية ذروة صعود حركة التحرر العربية، غير أنها في الوقت نفسه تمثلت فيها كل عوامل الضعف البنيوية التي وسمت الحركة ولازمتها منذ البداية، وأوصلتها إلى الطريق المسدود (الأزمة) الذي تكشف بصورة مأساوية في هزيمة يونيو 67. والسؤال الذي يطرح هنا: ما هي العوامل الموضوعية والذاتية التي شكَّلت جذر الأزمة التي عصفت بالمشروع القومي وأدت إلى انعكاس وتراجع النزعة الوحدوية وانتعاش التوجهات والسياسات الانعزالية (القطرية)، على الرغم من استمرار الخطاب الوحدوي لدى جميع الأنظمة العربية، بل وتم في العديد من الحالات التوقيع على صيغ وحدوية أو اتحادية ثنائية أو ثلاثية سرعان ما تبخرت وتلاشت قبل أن يجف المداد الذي كُتبت به؟
بداية لا بد من الإشارة إلى طبيعة البنية الطبقية والخطاب السياسي الأيدلوجي لحركة التحرر العربية ومكوناتها الأساسية المتمثلة بالتيار القومي والتيار الماركسي والتيار الديني، حيث تشكلت في إطار مجتمعات فلاحية / إقطاعية. وبعد جلاء الاستعمار تشكلت السلطة السياسية لملء الفراغ قبل أن تنضج الشروط السياسية والاجتماعية، وقبل تبلور الدولة الحديثة وافتقارها إلى القاعدة الاجتماعية والتراكم التاريخي الضروري، وكان تطلع البرجوازية التجارية ذات الأصول الإقطاعية / الأرستقراطية العشائرية، والنخب المثقفة تتجه نحو إقامة دولة على شاكلة الدولة الأوروبية المستعمرة، في ظل غياب الفرز الطبقي وضعف الطبقات الرئيسية الحديثة (البرجوازية، العمال)؛ نظراً لضآلة ومحدودية القطاع الاقتصادي الحديث (الصناعة)، وهيمنة تحالف البرجوازية التجارية مع الملاك العقاريين المتحالفة مصلحياً مع الاستعمار، حيث تحددت علاقات التبعية والسيطرة المتجددة لهذه البلدان كأطراف تابعة للمركز في نظام السيطرة الإمبريالي الباحث عن الأسواق لتصريف بضائعه والمتطلع للمواد الخام لتلبية احتياجات صناعته.
للحديث صلة