د.عبد الرحمن الحبيب
لا يعنينا كثيراً خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي من الناحية الاقتصادية، فهي قضيتهم.. قضيتنا أن الأقطاب العالمية الكبرى المتمثلة بأمريكا وروسيا والصين والاتحاد الأوربي، سينقصها هذا الأخير الذي أظهر هشاشة منذ سنوات، وخروج بريطانيا منه سيشكل ضربة قاصمة قد تخرجه من المنافسة.
إذا صح هذا التوقع فهو ليس بالأمر الجيد لنا في المنطقة، لأنه سيقلل خياراتنا التحالفية وفرص المفاوضات السياسية والاقتصادية والعسكرية.. كما أنه سيضعف مشاركة الآخرين في النظام الدولي فيما يضيف للأقطاب المهيمنة مزيداً من الاحتكار العالمي، لا سيما أنه سيمنح روسيا الجامحة مزيداً من القوة التي أخذت تتنامى على حساب أوربا المعتدلة التي بدورها بدأت تعلو فيها أصوات قومية متشددة.
لا شك بأن الروس مرتاحون جداً لنتيجة الاستفتاء.. ورغم أن قادتهم حاولوا دبلوماسياً تجنب إظهار مشاعر البهجة فإن بعض الساسة الروس لم يتمكنوا من ذلك، مثل عمدة موسكو الذي قال: «بدون وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فلن يكون هناك أحد سيؤيد فرض عقوبات ضدنا بشكل قوي جداً». وكتب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الروسي، في تويتر: «إنها هزيمة للمعسكر المطالب ببقاء بريطانيا في الاتحاد وفشل شخصي لباراك أوباما».
ثمة تأثير آخر في غاية الأهمية لكل دول العالم تناسته أغلب التعليقات التي التهت بالجانب الاقتصادي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وهو دعم الروح الانفصالية للتوجه القومي المتشدد مقابل اتجاه الدول نحو التوحد في زمن العولمة.. اليونان بالمقدمة، فقد سبق أن فكرت بالخروج، واليونانيون صوتوا العام الماضي لرفض شروط الاتحاد الأوربي؛ ولا يوجد الآن ما يمنع أن يصوتوا للخروج من الاتحاد الأوربي. كذلك، هولندا من بين الدول التي يقول الخبراء إنها ستخسر كثيراً جراء خروج بريطانيا، ووجود قوة مضادة للنزعات المهيمنة عليها من فرنسا وألمانيا، فليس من المستبعد أن تنخرط الحكومة الهولندية في محادثات في بروكسل للخروج من الاتحاد، حسب بي بي سي. فهل تخر سبحة الاتحاد الأوربي؟
هذا ما يبشر به دعاة القومية الشوفينية الذين علت أصواتهم بعد ظهور نتيجة الاستفتاء، إذ خاطب فاراج، زعيم حزب استقلال بريطانيا (وهو حزب هامشي على أية حال)، أنصاره، قائلا: «آن الأوان أن أحلم ببزوغ فجر بريطانيا المستقلة.. لقد استعدنا بلدنا.. الاتحاد الأوروبي يموت.» كما توالت تعابير النشوة للقوميين المتشددين.. مارين لوبان القيادية بالجبهة الوطنية قالت: «لقد حان الوقت لإجراء استفتاء في فرنسا..» وفيلدرز زعيم حزب الحرية المناهض للهجرة، وعد إذا جرى انتخابه، بأنه سيجري استفتاء على خروج هولندا من الاتحاد. أما خارج الاتحاد فقد قال المرشح الرئاسي الأمريكي العنصري ترامب: «إن قرار البريطانيين عظيم لاستعادة وطنهم..» وقال النائب القومي المتشدد جيرينوفسكي إن الرأي العام البريطاني «قام بعمل بطولي.. إننا سعداء بأن بريطانيا اتخذت القرار الصحيح».
المنطق الانفصالي المشترك بين كل هؤلاء يستند على العاطفة الوجدانية للمجد القومي (غالباً وهمي) بطريقة تدغدغ المشاعر بأن أغلب الأزمات الاقتصادية هي بسبب الآخرين: العولمة (منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، الاتحاد الأوربي، المهاجرون، الإسلاميون.. وأن المشاكل الأمنية هي بسبب الأجانب.. لذا فعلى هذه الدول إن أرادت العودة لسالف أمجادها القومية أن تستقل في دولة نقية بلا مهاجرين ولا أجانب ولا اتحادات مع دول أخرى.
بالمقابل العولمة تندفع منجرفة صاهرة حضارات وقيم العالم في قوالب جديدة لعالم واحد يكسر الحدود والقوميات ويستقبل ملايين المهاجرين، لكن ثمة آثار جانبية.. صار العالم يهتز بارتجاج لم يسبق له مثيل.. من زئير نمور شرق آسيا، وصعود الصين والهند كرائدين محتملين للاقتصاد العالمي إلى قلاقل شرق أوربا والتوترات الاقتصادية في جنوبها، وما بينهما النزاعات المستشرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. والإرهاب الذي وصل لكل زوايا العالم.. عالم خارج عن تفكيرنا المألوف، والأخطر أنه خارج عن السيطرة المعتادة.
هل انهزمت العولمة وتراجع توحد دول العالم أمام الدولة الوطنية المتقوقعة على نفسها؟ يمكن أن نجمع شواهد تؤكد توجه العالم للتوحد والعكس صحيح. ورغم ذلك فإن العوامل المساعدة لتوحيد العالم أكثر كثيراً من عوامل الانقسام. وأهم هذه العوامل هو التطور التقني المتمثل في ثورة الاتصالات والمواصلات، واندماج الاقتصاد العالمي في الشركات الكبرى بما يتجاوز الدولة القومية.. ويمكن اعتبار ما يحصل من انفصالات هو من قبيل رد الفعل المرحلي.
أما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي فهي بالأساس لم تكن منخرطة بشكل كامل بالاتحاد.. فقد تأخرت 16 سنة للدخول فيه، ورفضت الانضمام إلى منطقة اليورو متشبثة بعملتها الوطنية، ولم تدخل في اتفاق شنغن.. والبريطانيون يستخدمون مصطلح القارة على أوربا كبعد شعوري بعدم الانتماء لها جغرافياً.. وسياسياً، فبريطانيا دائماً تتخذ المواقف الأمريكية بغض النظر عن الموقف الأوربي.. لذا يتندر بعض السياسيين الأوربيين وراء الكواليس بأن بريطانيا في الاتحاد تشكل «طابوراً خامساً» لأمريكا! ويمكن القول من الناحية السياسية إن بريطانيا لم تدخل فعلاً في الاتحاد الأوربي كي تخرج منه.