د.عبد الرحمن الحبيب
بحجة عدم التخصص، وخوفاً من الملامة، يضطر بعض الكتاب لوضع مقدمة اعتذارية أو تبريرية لمقاله عن برنامج التحول الوطني أو رؤية 2030 أو التحول من الاعتماد على النفط، على أساس أنه غير متخصص! فهل يحق لأي فرد الدخول في هذه القضايا؟
قال لي أحد الأصدقاء المثقفين: لماذا تحولت مقالاتك إلى مواضيع في الإدارة والاقتصاد كمناقشة برنامج التحول الوطني ورؤية المملكة 2030.. هل تخصصت في حقل جديد دون أن ندري؟ قلت: لماذا لا تناقش هذه القضايا في مقالاتك، فهي تمسنا جميعاً؟ قال: أنا لست متخصصاً في الاقتصاد ولا أفهم في التخطيط الإداري.. لذا ليس مناسباً الدخول في مواضيع تقنية بحتة لا أتقنها كبرنامج التحول الوطني.. نعم، لدي رأي شخصي، لكنه غير تقني لا يصل لدرجة الكتابة في مقال.. ثم أردف مندهشاً: العجب الأكبر ليس ما تكتبه أنت وأمثالك بل هناك مشاركات في ورش العمل لبرنامج التحول الوطني من أناس لا ناقة ولا جمل لهم فيها مثل بعض الفنانين والرياضيين والممثلين ومواطنين غير مختصين في مناقشة هذه المواضيع التقنية المعقدة..
هذا الحوار المجتزأ يشكل خلافاً طبيعياً في تحديد أدوار المختصين وغير المختصين (خاصة المثقفين) في التعاطي مع القرارات الحكومية الكبرى التي تمس قضايا ذات مرجعية محددة التخصص كالاقتصاد وإدارة الأعمال. بعض المثقفين يرى أن دور المثقف يشمل القضايا الإنسانية العامة مثل الحقوق والحريات والمساواة والتطور الاجتماعي والاقتصاد السياسي وغيرها، إنما الاقتصاد بمفهومه التقني البحت وأساليب وضع الخطط والتخطيط يجب تركها للمختصين، فهي ليست من أدوار المثقف أو الكتاب عموماً.. أي أن علاقة المثقف هي بالمنتج الإنساني وليس بالعمليات الإجرائية له التي تعتبر تخصصية. مثال ذلك، طريقة صنع القنبلة النووية هي من اختصاص الفيزيائيين، أما موضوع إنتاجها وتأثيرها على البشر فهي من أدوار المثقف فضلاً عن السياسي..
هذا الفهم التخصصي لديه منطق نظري متماسك، ولكنه ليس واقعياً. القضية أكبر وأخطر من أن تترك للمختصين لأنها تمس الجميع بلا استثناء، فكما أن قضايا مثل توفير الماء والكهرباء والسكن والتعليم والصحة والعمل تشمل الجميع ومن حق أي فرد مناقشتها، فإن برنامج التحول الوطني ورؤية المملكة 2030 هي حق لنا جميعاً للمناقشة الإعلامية فيه. وهنا أتذكر ما طرحه عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكتي في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» الذي يعد حتى الآن أهم كتاب شامل عن الاقتصاد لقرننا الحالي: «تناول مواضيع توزيع الثروة والدخل الحديثين مهمة وجديرة بأن يشارك بها كل فرد لأنها تمس حياة الجميع، ومن الخطورة تركها فقط للباحثين والاقتصاديين والاجتماعيين والفلاسفة.»
لا شك أن المختصين هم المرجع الأول في كل مجال، ومن الحمق نكران ذلك، أو الزعم بأن مفكراً أو مثقفاً يمكنه الإلمام بكل الحقول المعرفية، لكن لا يمكن أن يترك المختصون وحدهم في المجالات ذات الصلة بالناس، فنحن لسنا حقل تجارب لهم بل ينبغي الدخول في هذه المجالات إذا كانت تمسنا مباشرة.. وإذا كان ينبغي ترك المجال التشريعي والتنفيذي والإجرائي للخبراء والمختصين فإنه لا يمكن ترك المجال الإعلامي لهم ليسرحوا ويمرحوا ما شاءوا في تناول مصيرنا.. أضف إلى ذلك أنك حين تكتب في صحيفة أو تتحدث إلى قناة فإن موضوعك يوجه للعموم أو يوجه للمهتمين من العموم، وليس محصوراً بالمختصين، إلا في حالة تحديد الصفحة أو البرنامج لذلك. بل حتى في بعض مجالات التخطيط العامة تفتح للجميع كما تفتح انتخابات المجالس البلدية للجميع دون اشتراط التخصص كتخطيط المدن أو الهندسة أو ما شابهها من تخصصات. طبعاً، على غير المتخصص ألا يدخل فيما لا يعرفه وإذا دخل في التفاصيل عليه الاستناد على الحقائق (خاصة لغة الأرقام) واللجوء للخبراء والمختصين..
لكن كيف يمكن الدخول في هذه القضايا؟ الدراسات والأبحاث توضح ثلاثة مستويات من العلاقة مع القرارات الحكومية الكبرى. الأول هو المشاركة بأي شكل من الأشكال، أي أداء دور معين في عملية تجهيز القرار وصنعه الذي ينتهي باتخاذ القرار (مسؤول، مستشار، مراقب، مشارك في التخطيط أو ورش العمل والنقاشات الأولية، خطابات لأصحاب القرار..). الثاني هو الاهتمام بالقرارات الكبرى للقضايا العامة كالكتابة التحليلية أو التقويمية المؤيدة أو الناقدة. الثالث هو التفاعل أي تجاوب المواطن مع القرارات. وهنا أضيف المستوى الغائب وهو السلبية بلا اهتمام أو تفاعل بحجة عدم التخصص..
إذا كان بعض المثقفين يصر على التخصص في بعض القضايا العامة، فإن الثقافة بحد ذاتها ليست تخصصاً، فلا يوجد في الجامعات تخصص «ثقافة» لا في البكالوريوس ولا الماجستير ولا الدكتوراه.. الثقافة في أساسها فكرة وضمير وموقف إنساني وليست حقلاً تخصصياً محدداً.. فالثقافة هنا تعطيك معرفة وأدوات تحريرية وأفكار وطرق تفكير تتيح لك الدخول في القضايا العامة والاهتمام بها. يقول البروفيسور هنري نوفين: «من المهم أن ندرك أنه لا يمكن الحصول على درجة الدكتوراه في الاهتمام [بقضايا المجتمع]، أن الاهتمام لا يمكن تفويضه للمختصين فقط، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يستثنى منه..»
يطرح العالم الرياضي والإحيائي رونالد فيشر، ضرورة مشاركة غير المختصين في المبادئ المفسرة للخطط والرؤى المستقبلية، ذاكراً أنه: «في عصر التخصص الضيق جداً، كالذي نعيش فيه، نحتاج قبل كل شيء إلى الاستقرار على فهم راسخ للمبادئ. التفاصيل في حد ذاتها جافة ومملة. وعلاوة على أنها تصبح غير مفهومة في غياب مبدأ تفسيري.»
يقول دنيس فلاناجان مؤسس مجلة العلوم الأمريكية: في عصر التخصص الناس فخورون بقدرتهم على فعل شيء واحد بطريقة جيدة، ولكن إذا كان هذا هو كل ما يعرفون، فإنهم يفتقدون الكثير من أشياء أخرى تقدمها الحياة لهم. وفي السياق ذاته فإن علماء مختصين من كافة المجالات، أمثال: روجر لوينشتاين (عالم اقتصاد)، جورج بنفورد (عالم فيزياء)، روبرت هينلين (روائي خيال علمي)، حذروا من أن الاكتفاء بالتخصص الضيق هو من شيمة الحشرات خاصة النمل.. وإذا كان الحال ناجحاً مع النمل إلا أننا لسنا نملا... فيا أيها الكاتب غير المتخصص أكتب في القضايا التي تمسك دون اعتذار لأحد..