د.عبد الرحمن الحبيب
«إذا كنت تسأل هل استشارات ماكينزي تناسب أوضاعنا وتصلح لمؤسساتنا، فعليك أن تسأل ما هي توجهات قادة المؤسسات أو المديرين التنفيذيين للقطاع الذي أنت فيه، فماكينزي في المقام الأول تركز على إرضائهم..» كانت هذه خاتمة مقالي قبل السابق..
هذه الفقرة أتت بعد استعرض أهم كتاب يؤرخ لشركة ماكينزي لمؤلفه داف ماكدونالد.. لم أكن أتوقع أنها ستجعل المقال في موقع مضاد بحدة للشركة، حسبما وصلني من واتس أب وقرأت في تويتر، فضلاً عن النقاشات الشفهية. بالنسبة لقناعتي لست ضد ولا مع ماكينزي، ولست مؤهلاً - على الأقل حتى الآن - لإطلاق الحكم، إنما الفقرة التي عرضتها كانت خلاصة منطقية للكتاب، وليست خبرة عملية. إنه استنتاج قابل للفهم إيجاباً أو سلباً، حسبما ترى أن من يرضي عملائه انتهازي مقيت أم بائع طبيعي يعرض ما يشتريه الزبائن. فما هو رأيك في بائع بضاعته النصائح؟
الآراء حول ماكينزي متباينة ومتعددة بعدد السنوات التسعين من عمر الشركة.. فتجد من يعمم الحكم عليها بالسلب، بل في أمريكا من يلقي اللوم عليها في فشل الرأسمالية الأمريكية.. بالمقابل هنا من يعمم الحكم الإيجابي لدرجة القول إنها قافلة مظفرة تسير ومنتقدوها ينبحون.. أما الواقع فيقول إنها ظلت على مدى عقود في المقدمة عالمياً في الاستشارات الإدارية، ويقول أيضاً إن هذه الاستشارات مرَّت بأفضل النجاحات وأسوأ الإخفاقات..
إذن، كيف نحكم عليها؟ لنأخذ التصويت عبر الاستبيانات.. تذكر صحيفة وول ستريت أن عملاء ماكينزي يرون أن المشورة التي قدمتها الشركة لهم هي أضعف من السابق بحوالي 10 إلى 20%. بينما بين عامي 2002 و2014، صُنفت ماكينزي في المرتبة الأولى من أفضل الشركات الاستشارية عالمياً، حسب Vault.com. هذه نتيجة متناقضة تشوش الحكم لكنها تفيدنا بأخذ صورة أفضل للتأني فيه..
في مثل هذه الحالات المتشابكة من الأفضل للكاتب أن يستعرض ويحلل ولا يقف ضد أو مع (رغم أن هذا حقه)، كي يخدم القارئ المهتم لأخذ تصور أفضل قبل الحكم.. هنا، دور الكاتب المحايد مثل الطبيب الشرعي في المحكمة يعطي تحليله الحيادي لمن وقع عليه الحدث (طالب الاستشارة)، ويترك الحكم للقاضي (القارئ) ليفصل بين الإدعاء (ضد الشركة) وبين الدفاع (مع الشركة). الكاتب هنا ليست مهمته إصدار الحكم العام بل تسهيل طريقة وصول القارئ للحكم؛ ويستثنى من ذلك إذا دخل الكاتب في تفاصيل تجبره على إصدار أحكام تقييمية..
إذا انتقلنا للحكم على ماكينزي من خلال ما بدأنا به وهو إرضاء العميل.. إلى أي مدى يتم ذلك؟ بعد الدعاوى القضائية في أمريكا ضد الستاتي (كبرى شركات التأمين)، تم الإفراج عن 13 ألف وثيقة لماكينزي أظهرت أنها أوصت الشركة بخفض دفعات المطالبين بالتأمين عبر تسويات معهم، وإنهاكهم عبر تأخير الإجراءات، واستنزاف المحتجين منهم بالمحاكم.. تضاعفت أرباح الستاتي على مدى عشر سنوات بعد اعتماد استراتيجية ماكينزي، ولكنها أدت أيضاً إلى رفع قضايا بدعوى غش المطالبين بالتأمين المشروع.. أي أنها أرضت العميل لسنوات في البداية ثم لاحقاً ورطته قضائيا!
الأسوأ من ذلك أن اثنين من كبار المديرين التنفيذيين السابقين لماكينزي، غوبتا وكومار، كانا من بين المدانين في تحقيق حكومي بأمريكا (حتى عام 2014) في التداول من الداخل لإفشاء وتبادل المعلومات الداخلية مع مجموعة جاليون.. ورغم عدم اتهام ماكينزي بارتكاب مخالفات، إنما الإدانة كانت محرجة للشركة، لأنها دائما تفخر بصرامة سرية معلومات العملاء مما أثار الشكوك حول مصداقيتها..
إذا كانت نصائح ماكينزي باعتماد استراتيجيات أدت إلى انهيار شركات، فكذلك فشلت دول فشلاً ذريعاً نتيجة اعتمادها خطة ماكينزي.. فهل ماكينزي مسؤولة عن الفشل؟ البعض يقول: كلا، لأنها تضع الخطط وليست هي المسؤولة عن التطبيق الفاشل. لكن البعض يؤكد أن نصائح ماكينزي، أحياناً، وجهت قادة المؤسسات الكبرى للتصرف بحماقة؛ مثل فضيحة أرنون (كبرى شركات الطاقة الأمريكية) التي أفلست بعد ممارسات محاسبية مريبة أدينت بالمحاكم، رغم أنه لم تصدر إدانة ضد ماكينزي، إلا أن بعض النقاد يشكك بعلم ماكينزي بتلك الممارسات..
لكن لا ننسى أن ماكينزي بعد الحرب العالمية الثانية، حسنت أوضاع كبرى الشركات الأمريكية، بل أنها ساعدت على إعادة هيكلة البيت الأبيض على نحو فعال، ووجهت الشركات الأوروبية من خلال إعادة الهيكلة وسهلت تحويلها لأداء أفضل.. ولديها نجاحات مشهودة في دول شرق آسيا..الخ
كخبير في الاستشارات الإدارية، هل ترى قوة ماكينزي للخير أم للشر؟ سؤال وُجه لماكدونالد في صحيفة «تايم»، قال: باختصار، كلاهما. وشرح ثلاثة أسباب لانتقادها. الأول، أن الشركة تعطي شباباً من حملة ماجستير إدارة الأعمال (من أفضل جامعات العالم)، لكنهم بلا خبرة ينصحون المديرين التنفيذيين المخضرمين بكيفية تشغيل أعمالهم على نحو أفضل. ثانياً: مجرد هيلمان العلامة التجارية لماكينزي تجعل المديرين التنفيذيين لا يقاومون التعاقد معها. ثالثاً: أنهم قلما دخلوا واقعياً في تنفيذ الأعمال، فلديهم بقع عمياء بالتأثيرات الإنسانية والسياسية لقراراتهم الهامة مثل تسريح الموظفين والعمال حتى في أوقات غير موجبة لذلك سوى الربح الفاحش..
قال له السائل: يبدو لي ذلك عنواناً واضحاً للشر؟ رد عليه ماكدونالد: لا يمكن لماكينزي أن تظل باقية لنحو قرن دون تقديم قيمة ثمينة لأذكى الناس وإلا لكانت اختفت منذ فترة طويلة.. الشركة مفيدة للغاية في نشر أفكار جديدة في إدارة التفكير، من الهيكل التنظيمي إلى الخصخصة، وإستراتيجية تكنولوجيا المعلومات، والعولمة..الخ.
الخلاصة أنه ليس مفيداً الحكم العام المسبق باستشارات ماكينزي، بل الحاجة لأحكام تفصيلية لما تطرحه خططها في: إعادة الهيكلة والدمج، تنويع الدخل، الخصخصة، تقليص النفقات وزيادة الإيرادات، تسريح الموظفين؛ والانتباه هنا لتأثيراتها الاجتماعية والسياسية التي أظهر تاريخ ماكينزي قلة العناية بها، فاستشاراتها تعتمد على لغة الأرقام المالية فقط، دون تبعاتها اللاحقة..
كما أن من يطبق الاستشارات عليه الجزء الأكبر من الحمل بداية من قادة المؤسسات ونهاية بأفراد المجتمع، مروراً بمن ينفذها من مسؤولي الدرجة الثانية.. فتلك استشارات شهدت نجاحات في شرق آسيا وإخفاقات في الشرق المتوسط.. فهل هي صدفة أن تناسب أولئك وتفشل مع هؤلاء؟