لم أكن أعرف أن ذلك اليوم يوم فراق بيني وبين أبي لأني كنت قبل ذلك اليوم أزوره أنا وأختي..
كان بوعيه رغم الألم كان يتحدث رغم المرض..
كان يسأل عن أمي وعن أمه وعن بيت «شارع الدركتر».
بعد انتهاء الزيارة قال لي سلم لي على أمك ابتسمت رحلت ولم أكن أعرف إنه آخر سلام ينطق به..
عندما رحل أبي أحسست برغبه بزيارة الموانئ التي تذكرني به والأشخاص..
أصبحت أحب الأيادي التي اجتاحتها التجاعيد وكأنها حقول الذرة..
كل ما رأيت الناقة والبدو والصحراء أتذكر أبي وأخي رحمهم الله..
أتذكر أبي فتعانق حريتي قصائدي القديمة..
أعرف أن المساء يجعل الذاكرة تسكن في الحقيقة.. علمني أبي أشياء لم أفهمها إلا بعد أن مررت بتجاربها في حياتي..
دائماً كان يقول إذا كنت في مجلس فحدث نفسك قبل أن تحدثهم إذا رأيت أن كلامك منطقي ومناسب فتحدث ولا تكثر..
أبي كان الشخص الوحيد الذي يريدني أن أكون أفضل منه ولم أستطع..
كان أبي لي وطناً مختلفاً فقد وفر لي جميع سبل العيش والترفيه بلا مقابل..
كان همه الوحيد أن لا يتمكن المرض مني عندما كنت صغيراً, كان يحرث الطرق ويجعل من الأسلحة أساطير تتحدث..
وأعلام تنقش الحروف على جال الطرقات..
كنت أعتقد أن أبي لا يريد سعادتي لكن عندما كبرت عرفت أن أبي كان يبعدني عن التعاسة وأنا لا أعرف..
كثيراً ما أحدث ابني الكبير سلمان عن أبي وإني أفتقده وأفتقد نصائحه كثيراً لأنه الوحيد الذي يهتم لأمري حتى لا يتحسف على نصائحي إذا رحلت ويفتقدني كثيراً..
أبي كان لو يستطيع أن يجمع الغيم ويرسلها إلى الريح من أجل المطر لأجل سعادتي..
أبي كان لا يريدني أن أسرح وأفكر كان يقول كل شيء بيد الله..
أبي كان لا يريدني أن أبكي لأن البكاء له ثمن في المستقبل أبي كان لا يريدني أن أفوت ركعة واحدة الآن عرفت ذلك ولماذا..
تعلمت من أبي أن أكون حريصاً على أمي بعد غيابه وحريصاً على الدعاء له في كل وقت..
تعلمت من أبي أن اصنع قهوتي بنفسي لكي أتلذذ بها «وتسمر راسي»..
أتذكر أبي عندما أسافر وكيف كانت نصائحه في محلها خاصة دعاء السفر..
أتذكر أبي عندما أزور طريف وحزم الجلاميد..
تعلمت من أبي أشياء لم أتعلمها من التعليم والإعلام إلا بعد زمن طويل ..
مرة كنت أبكي وقال لي أبي نصيحة:
«لا تلحق المقفي لو كان مملوح..
والمقبل ارفع له شراع السفينة «..
((رفعت شراع السفينة ووصل المقبل))
لعلها وصلت..
رحم الله أبي وأخي وأموات المسلمين.
** **
بندر العزاز - الرياض