يردد الكثير - من باب التندر- بأن المستقبل للقيادة وتولي المناصب والشأن العام سيكون لأصحاب الدرجات المتوسطة، وقد تكون هذه حقيقة، وهذا بحاجة إلى تفسير بحثي أكثر تعمقاً؛ لكن ومن وجهة نظري يمكن تفسير هذه الظاهرة تحت الأسباب التالية:
أولاً: إن غمار الحياة لا يخاض بهذا المعدل المرتفع فحسب؛ وإن النجاح في الثانوية العامة يلزمه نجاح في حياته الخاصة، وإني لأعرف من المتفوقين من لا يستطيع شراء خضار منزله؛ لذلك فإن الواجب على الأهل الاهتمام بهذا الجانب العملي من حياة أبنائهم.
ثانياً: يغلب على صاحب المعدل المرتفع مؤشر الحفظ والتقولب ضمن منهاج قد حفظه وأصبح أسيره، فإن تغير فيه شيء، ارتبك الطالب، وهذا ما يقدم أصحاب المعدلات المتوسطة والذي هو غالباً طالب مستهتر ولكن أسعفه فهمه، وحين يتصارع هذان النموذجان مع الحياة العملية والتي تتسم بالتغيير والتقلب الدائم يتقدم صاحب الفهم على صاحب الحفظ.
ثالثاً: المتفوق شخص إنكفأ على كتابه وألف لغة التفاهم معه وانقطع -وإن كان لفترة محددة- عن مشاركة الآخرين، وهذا يضعف شخصيته القيادية والتي عمادها مشاركة الآخرين والسيطرة عليهم.
رابعاً: المتفوق يصاب أحياناً بالعُجب، مما يؤثر على تعامله الطبقي مع غيره والذي قد يصل في أسوأ حالاته، بأن يمارس هذا التعجرف على أفراد أسرته ووالديه، فيجعل منه منبوذاً قَصِّياً.
خامساً: المتفوق لا يرضيه كثير من الخيارات رغبةً منه بمواءمة خياراته مع تفوقه، وهذا ما يصنع حالة من التردد لديه، وإن التردد مقبرة الفرص، وهذا ينطبق على اختياراته لتخصصه الجامعي، وللمناصب والوظائف المتاحة لاحقاً.
سادساً: يدفع الأهل بأبنائهم المتفوقين وأصحاب المعدلات المرتفعة للتعليم بالخارج، ونتيجة ذلك غياب طويل عن الوطن يعود فيه الطالب وبينه وبين واقع وطنه فاقد يصعب تداركه فيعود إلى موطن دراسته، أو يقبل بفشله ويحاول التكيف معه، وفي كثير من الأحيان يستقر في موطن دراسته ولا يعود أصلاً.
سابعاً: يسعى المتفوق للبحث عن الاستقلالية وافتتاح مشروعه الخاص، بعيداً عن القيود التي تفرضها عليه الوظائف العامة والمهام ذات الشأن العام، والتي يرى فيها تقييداً لحريته فيعزف عنها، ويفضل أن يكون حراً.
ثامناً: أصحاب المعدلات المتوسطة هم أصحاب إرادة حديدية، صقلتها محاولاتهم المتعددة للوصول إلى النجاح، بعكس صحاب المعدلات المرتفعة والذي قد يرى آخر حياته في أول فشل يواجهه.
تاسعاً: الاختيار يتم بالعادة تأسيساً على الشهادة الجامعية الأولى وليس لمرحلة الثانوية العامة أي تمايز في الاختيار وجميع الحاصلين على شهادة هذه المرحلة سواسية، وبالتالي فإن كانت الثانوية تحدد الكلية والتخصص الجامعي ولكن شهادة التخصص الجامعي هي التي تحدد مصير الطالب في المجتمع.
عاشراً: فساد البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الوطن العربي، أدى إلى اعتلال معايير الاختيار، ففي معظم الدول العربية والإسلامية يتم الاختيار على أسس حزبية أو توافقية أو تماشياً مع الظروف الدولية، ولا يتم اللجوء إلى معيار الكفاءة إلا إذا فشلت المعايير الأخرى.
تلك عشرةٌ كاملة، ختامها نصيحة؛ فلا تكن سلحفاة بطيئة ولا أرنباً فاشلاً أو منعزلاً، ولا يكن الطالب متوسط المستوى الذي وجد لنفسه سبيلاً في مجتمع وبيئة فاسدة أجدر منك، فالبيئة واحدة، والجميع يستطيع تغيير واقعه وواقع مجتمعه.