ما هي بركة البيوت؟
كنت في السابق في بداية كل عطلة أجهز شنطي مع أولادي لأقضي إجازتي بجوار أمي وأبي (رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته) وإخواني وأخواتي وأفراد عائلتي الجميلة في «المجمعة سدير».
كانت الحياة ممتعة وجميلة جداً بقربهم، فقد كنت أشتاق إليهم كثيراً لبعد المسافة وبحكم الارتباط بالعمل، عندما ابتعدت عنهم أول مرة في حياتي كنت أكتب أشعاراً وكلماتٍ تعبر عن مدى الشوق والحنين لهم وجمعتهم،كانت مدينتنا صغيرة، ولكنها تبدو في عيني أكبر وأجمل المدن، كنت أستعد لليوم الموعود (يوم الإجازة) بكل سعادة وفرح، وكانوا يقولون بأن والدتي (رحمها الله) تتجمل، وتضع الكحل في عينيها عندما تعلم بقدومي إليها، وعندما أصل إلى (مدينتنا) أدخل غرفتها التي كانت مكاني المفضل، وأنام فيها بكل سعادة وفرح وأشعر بأنني أسكن في قصر منيف، فالمشاعر الصادقة ليس لها علاقة بالأماكن فالذين يعطون للأماكن الجمال هم الأشخاص وليست الأماكن، وفي المقابل كان والدي (رحمه الله) يتهلل وجهه من السعادة والفرحة عندما أدخل عليه مع أولادي، يصحو باكراً ليحضر لنا الخبز الحار من المخبز القريب من منزلنا، وكان يذهب إليه سيراً على قدميه، لا أدري كيف أصف فرحتهما بقدومي لبعدي عنهما، وهذا ديدنهما مع جميع إخواني وأخواتي أطال الله في أعمارهم، ورحم الله أخي وأختي وأسكنهما فسيح جناته، أحاسيس الوالدين ومشاعرهما هي الأحاسيس الحقيقية الثابتة التي لا تتغير، ولا تتبدل في هذه الحياة،كانت الأيام تمر في وجودهما بسرعة، وكانت العائلة تحت ظل واحد أبناءً وأحفاداً كبروا مع بعضهم، واستمتعوا بجمال الحياة بصحبة بعض. المغزى من ذكر ذلك هو أن الحياة في وجود والديك لها طعم جميل ومختلف، وعندما تفقد والديك سوف تفقد جزءاً كبيراً من لذة الحياة ومن متعتها، سوف تشعر بفراغ كبير في قلبك، وفي حياتك، لذلك أستغرب ممن ترك والديه وحيدين بلا أنيس، العاملة تقوم بدور الابنة والسائق يقوم بدور الابن.
(بر الوالدين سلف ودين) ومكان الآباء هو وسط البيوت وليس في بيوت مغلقة تحت رعاية العمالة الوافدة تتم زيارتهم بالتناوب، ومن جعلك أميراً مدللاً في صغرك يستحق أن تجعله ملكاً عندما تكبر، فهم يحتاجون إلى الأنس والمشاركة في المأكل والمشرب أكثر من المادة، لنترك الأجهزة قليلاً ونتجه إلى أقرب الناس إلينا (الأم والأب) وخصوصاً الكبار في السن ونقضي ونستمتع بأجمل الذكريات معهم، لنقص عليهم أجمل القصص والحكايات التي تدخل الفرحة والسرور على قلوبهم، ولتكن جلستنا معهم إعانة على أمور الخير في هذه الحياة ولنخرج معهم في نزهات قريبة مناسبة لهم ولا نحرمهم من الحياة ولنخرجهم من الرتابة المملة ولا نجعلهم فريسة للوحدة مع ذكريات الماضي، فهم بركة البيوت وسر سعادتها، أحاديثهم جميلة وتجاربهم ثرية ودروسهم وحكاياتهم حكم، وجود الوالدين نعمة من نعم الله، بادر إلى برهما، واغتنم وجودهما على قيد الحياة بإدخال البهجة على قلوبهما، وليكن أسلوبك هيناً ليناً معهما، وكن رفيقاً وملازماً لهما فهذا هو الفوز في هذه الحياة، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}.
وبر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله (جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَهُ في الجِهَادِ، فَقَالَ: أحَيٌّ والِدَاكَ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ. الراوي: عبدالله بن عمرو) وهذا يدل على عظم حقهما وأبواب البر كثيرة وسهلة وأجرها عظيم، حتى بعد وفاتهما هناك أبواب للبر بالدعاء لهما والصدقة وصلة قريبهما وصديقهما.
رحم الله والديّ وأسكنهما فسيح جناته، وجميع الآباء والأمهات وأطال الله في أعمار من هم على قيد الحياة وحفظ الله إخواني وأخواتي وأبنائي وجميع أحبابنا من المسلمين والمسلمات.