تعلمنا نحن البشر أن الدروس المستقاة من معترك الحياة لا تصل إلى أذهاننا إلا متأخراً وربما بعد فوات الأوان كما تعلمنا وأدركنا يقيناً أننا أفنينا أعمارنا في كدٍّ وتعبٍ واستغراق كامل لحياتنا بين روتين عمل مملٍّ وصداقاتٍ زائفة وأوقات ضائعة تكاد تتكرر كل يوم وذلك على حساب التلذذ بجمال الحياة وقيمتها والتي من المفترض أن نحياها كل يوم وكل ساعة.
نعم هي تلك اللحظة الراهنة التي يجب أن نشعر بها في معترك حياتنا فالحياة جميلة وإن تكدّرت وتنغصت ببعض الممارسات غير الجيدة أو تلوثت بأدران بعض السلوكيات الخاطئة.
أمس انتهى.. وغداً لا نملك ضماناً على مجيئه...، اليوم فقط هو ما نملكه، ونملك الاستمتاع به، لكننا ما نفتر نقسّم يومنا إلى نصفين، نصف نقضيه في الندم على ما فات، والنصف الآخر في القلق مما سيأتي.
ويضيع العمر بين مشكلات الماضي وتطلعات المستقبل، وتنسل أحلامنا من بين أصابعنا.
كُثرٌ هم من يعيشون الحياة وكأنها بروفة لحياة أخرى قادمة, والحقيقة أن دقائق الحاضر هي ما نملك، وهي ما يجب أن ننتبه إليها ونحياها بهناء وطمأنينة.
إننا نرى من حولنا أناساً طارت أفئدتهم لتسبق الأيام، فهم يعيشون مشكلات الغد، ويرهبون من حولهم بكوارث المستقبل ويتوعدون غيرهم بمستقبل مظلم وفقر مدقع ويعدون العدة لهزيمة الوحش القادم.
فيمر اليوم على حين غفلة منهم، ويضيع العمر وهم ذاهلون عن الاستمتاع به والشعور بالمنح والأعطيات التي أعطاهم إياها الله.
يا صاحبي استمتع بحال صحتك وعنفوان قوتك في غير معصية أو ضرر على نفسك ومجتمعك وأهلك، استمتع بقدر ما تستطيع براتبك، بمدخرك من المال، بما تملك من عقار أو رصيد، كن أصمَّ عن تلكم الأصوات التي تناديك بالادخار لليوم الأسود الذي قد تموت ولن يأتي، بل قد يكون اليوم الأسود هو هذا اليوم الذي تحرم نفسك منه ما تشتهي، وليست هذه بمثابة دعوة مني للإسراف أو التبذير بل أقصد العدل في الصرف على نفسك وأهلك وعدم التقتير أو الإمساك بحجة (خَبِّ قرشك الأبيض ليومك الأسود).
هل تعلم يا صاحبي أن الإنسان لا يستهلك إلا 30 % فقط مما اكتسب من مال في الدنيا طوال فترة حياته وكدِّه وصرفه فيها، و70 % بالمائة من مدخراته تذهب دائماً إلى الورثة..، ذلك المال الذي أفنيت حياتك في جمعه وحرمت نفسك من أجل ادخاره، وقد لا يذكرك الوارث بدعوة في ظهر غيب, وقد مرت بنا مواقف لأناس حرموا أنفسهم قيمة الاستمتاع بالدنيا وقتّروا على أنفسهم وأهليهم.. ثم غادروا دنياهم ولم يستمتعوا بحياتهم.
عش يومك يا صاحبي، استفد من تجارب الماضي بدون أن تحمل آلامها معك، خطط لمستقبلك من غير أن تعيش مشاكله وهمومه، ثق بخالقك الذي يعطي للطائر رزقه يوماً بيوم، هل سمعت عن طائر يملك حقلاً أو حديقة؟
إنه اليقين بالله والتوكل عليه والثقة بما عنده.
الأفضل قادم لا محالة شريطة أن تحسن الظن بخالقك، ولا تضيع يومك في التفكير والتقتير والهم والخزن والقلق وسؤال (ماذا يخبئ لنا القدر)؟ وخذ بقاعدة فولتير: نحن لا نعيش أبداً... نحن دائماً على أمل أن نعيش...
دعوتنا لعيشِ الإنسان يومه، والحرصِ على تأمين مستقبله في الآخرة، لا يعني الاستغراقَ في اللحظاتِ الحاضرةِ، والغفلةَ عن مصالح الدنيا المستقبَلة؛ ذلك أن اهتمام المرءِ بغده، وتفكيرَه فيه معدود في الحصافةِ ورجاحةِ العقل، ولكنَّ فرقاً كبيراً يتراءى للعقلاء بين الاهتمام بالمستقبل وبين الاغتمام به؛ فالعاقل يهتم بالمستقبل ولكنه لا يغتم به، ولا يتعطل عن العمل في يومه ويجعل يومه كله قلقاً وهمّاً وخوفاً بسبب غده.
وكما أن الإسلام يحضُّ أتباعه على تأمين المستقبل الحقيقي في الآخرة، إلا أنه لا يأمرهم بإهمال الدنيا وتضييع معايشها، وفي القاعدة القرآنية المالية -التي ذكرها أولو العلم والإيمان للباغية الهالك قارون- نبراسٌ للمؤمنين وميزان للصالحين: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (77) سورة القصص،
ما مضى مات والمؤملُ غيبٌ... ولك الساعة التي أنت فيها.
عش كل يوم من حياتك كأنه الأجمل والأفضل ودع عنك القلق والحزن لما هو آتٍ فأيامك معدودة وحياتك منقوصة والدنيا جميلة لطيفة لمن خلع نظارته السوداء, ابتسم وإن لم تستطع فحاول أن تستخرجها من وسط زحمة الهموم، فهي دوماً جاهزة ولكنها تنتظر منك إن تأذن لها.