الوفاء أمانة في عنق الأوفياء، وذكرى من رحلوا عنا تظل نبضًا في قلوب من يعرف قيمتهم، ولا ينكر جميلهم، ولا ينسى جمالهم سواء الأدبي أو العلمي، فسيرتهم العطرة تظل تعبق في الأماكن التي حملتهم وهم يقدمون للبشرية علمًا نافعًا كان خلاصة تجاربهم على امتداد حياتهم، ذلك العلم الذي خلدهم بيننا على الرغم من مرور السنين تلو السنين، فهاهم أولاء أحياء ينطق لسانهم بما سطرته أصابعهم في أوراق لم تَمُتْ ولن تموت، فيها الأدب والعلم ومكارم الأخلاق. وسبحان الله العظيم! ترى العالم في حياته - معروفًا من بعض المحيطين به، ومن أولئك التلاميذ الذين يدرسون على يديه، وممن سمعوا عنه أو قرأوا له، ولكن بعد مماته ترى دائرة عارفيه أوسع، ودائرة مريديه أكبر، كأنه هو مركز الدائرة، والمحيطون به هم محيط الدائرة، كلما بعدت المسافة الزمنية بينه وبينهم كان المحيط أكبر وأكبر، وظل الكل على البعد - لا يغادر هذا المركز ولا يمكن له أن ينصرف إلى غيره، وبالجمال الوفاء تراه نورًا يزين قلب صاحبه، وفضلًا يعلو محياه ومن رام أن يلمس هذا الوفاء ويراه رأي العين فلينظر إلى كلمات التأبين التي حملتها وسائل التواصل يوم أمس في تأبين الراحل الأمير بدر بن عبدالمحسن، ليجد نبضات حب صادق صافٍ. ومن هذه النبضات المستمدة من دماء القلوب التي فزعت للخبر، تمد ببعض الخواطر عن الراحل الفقيد،كلمات مضيئة في ذكره وتذكره، استأثر الموت بأمير كانت حياته مثالًا للخلق العظيم، والسعي الكريم، والنشاط الفكري الذي أغدقه سخيًّا في بذل الجهد حتى أُخريات أيامه على الرغم من علو السن وإلحاح المرض.. ليس على طول الحياة ندم، ومن وراء المرء ما يعلم، سنة مضت بها الحياة الدنيا منذ كان الناس، حتى آمنوا بالموت حقًا كما آمنوا بالحياة، ولكن الآمال تَغِري، والأماني تخدع، فالناس يموتون في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة.. ولكن الأحياء تمتد بهم آمالهم، فيردون الموت عن أنفسهم، وعمن يحبون حتى يصيبهم الموت في أنفسهم، أو فيمن يحبون، كانت قوة روح الفقيد وقوة عقله وقوة قلبه وإيمانه العميق .. شاخ الجسم ولكن عقله ظل بالعطاء الفكري شابًا، وقلبه ظل شابًا.
قد يشق علينا، اليوم، أن يغيب عنا، عن محراب الأدب وبحور الشعر أمير عزيز، كان بالأمس معنا في الوطن ملء السمع والبصر هو المغفور له بإذن الله صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر المبدع بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود، مضى إلى جوار ربه بعد أن ترك أعمالًا أدبية خالدة، وإنجازات في الثقافة والفكر يُعتَد بها، ستظل شاخصة وبارزة، تحيي ذكراه ولمن بعده من يترسمون خطاه، ويسيرون على نهجه، ويواصلون رسالته الخالدة، تغمد الله فقيد الوطن بواسع رحمته، وأنزله منازل الأبرار، وكتب أعماله الصالحة في ميزان حسناته، وسوف تبقى ذكراه الطيبة عاطرة ناضرة ما بقيت مآثره الحميدة، وانتفع بعلمه وإبداعه المنتفعون، وتواصلت جهود عارفيه، ورفعت دعوات آله ومحبيه.. كان رحمه الله تعالى يتذكر الآيات القرآنية التي حفظها منذ كان صبيًّا صغيرًا في المدرسة، ويفاجيء الحضور بأبيات من الشعر العربي القديم، التي يحفظها عن ظهر قلب، وكثيرًا ما يتحدث عن احترام قيمتي العلم والعمل، والأخلاق الكريمة، والرحمة والتسامح والالتزام والمحبة، واحترام الكبير، والعطف على الصغير، كان مثالًا لكرم الأخلاق، ومثالًا للحفاظ على المباديء والقيم، ومثالًا للإنسان الذي يحترم نفسه ويحترم الآخرين، ورغم مكانته الأسرية إلا أنه كان مثالًا للتواضع.. لقد أعطى حياته للبحث والشعر والإبداع الأدبي، لم يكن يسعى لمنصب وإنما كرّس حياته للعلم وحده، وفي الوقت نفسه لم يبخل على قريب أو بعيد بنصائحه القيمة وخبرته الأدبية، كان دائمًا موجودًا عندما يحتاج إليه، يحيط الجميع بعلمه وخبرته وثقافته وحبه ورعايته .. أدى رسالته قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، فهذه سنة الله في خلقه، ورغم خسارة الوطن فيه فإن ما يثبت القلوب الإيمان العميق:
هذي الحياة لنا ونحن اليوم من أربابها
تحيا بنا وشبابنا الرّيان نبع شبابها
نخشى الغيوب وما الغيوب وما ظلام حجابها
هي ضلّة الأوهام في بيداء من أوصابها
أيامنا غُدُر يفيض الغيث من تسكابها
عذباً اذا طابت وطاب الماء في أكوابها
هي شعلة مرفوعة في غيبنا تسعى بها
نمضي اذا ضاءت ونخبط إن دجت في غابها
أدق وصف لشباب الفقيد الراحل، ووعيه الباكر بالحياة، فلسفة وتناولًا واقتحامًا، متوهجة بروح الصبا والشباب والكهولة، ونزعاته الفكرية القلقة، الباحثة عن خيوط من اليقين، العامرة بطموح يحفز الخطى، ويوسع من آفاق الرؤى كلما تناولنا ديوانه الشعري ورسالته .. رزئنا ببدر فلله ريب الحادثات بمن وقع ففجعنا به، نعى الناعي فاسودت وجوه وأسكتت على عارفيه المسامع، وأقبل ماء العين من كل زفرة، ذُكر الفراق فأسرع الحزن في العقول، ونشرت وصيته إلى سعود أخ ماجد، لنعم الفتى، حسب الإخوان نأي الأرض بينهما، هذا عليها، وهذا تحتها بالٍ.
حسبنا البعد وإن كان التداني بالجوار حاصلًا، إن هذا تحت التراب يبلى وأن الآخر على ظهرها يمشي ويحيا، وتأبيني هذه كلمات وحروف في رحيل الأمير المبدع، كان في الحياة نموذجًا فريدًا للجمع بين الأدب والثقافة والشعر وقصائد تمثل المعاصرون فيه قيم العرب الخالدة، القيم الشعرية التي جمعت بين العقل والوجدان، كما جمعت بين الحضارة والأمان، عاش بدر حياة عريضة سوية مثمرة لم يتخل فيها عن خلق من أجل خلق آخر، ولم يفرط في صفة نبيلة من أجل ما حقق من سمو صفة نبيلة أخرى وقد وصل إلى القمة بإنجازه، واحتفظ في الوقت نفسه بإنسانيته المهذبة الأبدية الراقية دون تفريط في النبل أو الوفاء أو التواضع أو الاهتمام بالآخرين ومجاملتهم والحدب عليهم، عبقرية وتكامل بين ضروب الاجتهاد، وتناغم بين مسارات المشاركة في الحياة العقلية مع معاصريه إلى ما انفرد به من تفوق وتألق مع الوطن في كل شأن من شؤونه، لا سيما في الحياة الفكرية بحيث يمثل واحة يفيء إليها من يعرفونه من هجير الأوساط الأدبية المختلفة، وإذا احتدم الخلاف كان له الرأي الفصل يجمع بين العقل وزهو الوطنية .. وشعره منارة فَهْم وتجربة وتوجيه، وصوته الدافيء يبعث أمانًا واطمئنانًا .. وإني لأتقدم بخالص العزاء إلى أسرة الفقيد الكريمة وإخوانه وآله وزملائه وأصدقائه وعارفي فضله، وجزاه الله خير الجزاء،.. وإنما هي جمل عزاء وتأبين لأمير جليل، ومواطن صالح، وصديق لكل الناس... غفر الله له مع الخالدين، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- اللواء/ سعود بن مشعان مناحي الدخيل