عبارةٌ استهوتني كثيرًا؛ لأنَّ الوفاءَ آسرٌ للقلوب مطربٌ للأرواحِ مسعدٌ للنفوس خصوصًا في هذا الزمن الذي كاد أن يغيض ماء الوفاء بين أفراده بسبب مادياتٍ ألهت وفتنت ونفسيات تقلَّبت وتغيَّرت إلا عند من رحم الله ممن ألفوا الوفاء وعشقوه, فالوفاءُ خُلقٌ نبيلٌ وصفةٌ جميلةٌ اتصف به المولى سبحانه فقال عن نفسه في كتابه العزيز {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ، وكانت في أنبيائه الكرام فأثنى سبحانه على خليله إبراهيم بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} وكم تأسرني مواقف فرسان الوفاء الذين هم كالشامة في وجه الحياة وهم القلة في زمنٍ تكاثر فيه الناس فأجد الأوفياء مع والديهم بِرًّا وخدمةً وعطاءً وأجد الأوفياء مع معلميهم حبًّا وتواصلاً ودعاءً وأجد الأوفياء مع أهل المعروف عليهم شكرًا وتقديرًا وثناءً وهذا يشي لي بأنَّ الدنيا لازال فيها خيرٌ والخيرُ في أمة محمد صلى الله عليه وسلم باقٍ إلى قيام الساعة ويلوح لي في آفاق الفكر حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (إنَّ أبرَّ البِرِّ صلةُ المرءِ أهلَ ودِّ أبيه بعد أنْ يولي) وقد رأيت نماذج طيبةً جعلوا هذا الحديث نبراسًا لهم فكانوا أوفياء مع أهل ودِّ آبائهم وأمهاتهم يواصلونهم بالزيارة والتقدير والمحبة والهدايا ولعل من أبرزهم والدي الذي يناهز الثمانين عامًا- متعه الله بالصحة والعافية- لايزال يصل صديقات أمه - رحمها الله - بشيءٍ من الهدايا بين الفينة وأختها منذ رحيلها من هذه الحياة وحتى الآن؛ ليعطينا- نحن أولاده- درسًا من دروس الحياة عنوانه الوفاء، ثم ألتفتُ هناك فأجد أولادًا بنوا مسجدًا لوالدهم المتوفى أو يضعون وقفًا ساري الأجر له في منصة إحسان أو يبنون له مسجدًا، وأرى أقارب ينهجون هذا النهج لقريبهم الراحل وأصدقاء لصديقهم الذي غادر الحياة وانقطع عمله، وأكبرتُ ذات عامٍ صنيع فتيةٍ كرامٍ أوفياء اشتروا مجموعةً من المصاحف ووزعوها على بعض المساجد وقفًا لأصحابهم الشاب الذي توفاه الله آخذين بقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ»، وإني حين أرى مثل هذه النماذج الطيبة لتأخذ السعادة مجامع قلبي ويحدوني الجاء أن يتكاثر أمثال هؤلاء الأوفياء في حياتنا فبمثلهم تطيب الحياة - حفظهم الله أينما كانوا وبارك فيهم أينما حلُّوا وزادهم وفاءً إلى وفائهم ولهم أُهدي:
الحرفُ في أهلِ الوفاءِ مُعطَّرُ
وأنا بهم في كلِّ حفلٍ أفخرُ
هم زينةُ الدنيا وحُسْنِ حديثها
بحضورهم كلُّ المغاني تُزهرُ
بصنيعهم أسروا قلوبَ أحبةٍ
وحروفُ شعري بالثناءِ تُعبِّرُ