في مكة تتساوى الرؤوس وتتسامى النفوس وهنا يقوّم الإنسان قيمته الذاتية، فلا فضل لأحد على أحد بماله أو جاهه أو لونه أو أي غرض دنيوي.
كان العرب قبل الإسلام بقرون يحجون إلى الكعبة ويأتون بأعماله من طواف وسعي وغير ذلك من شعائر الحج، فجاء الإسلام وأقرّ بعض الشعائر مما يتفق مع الشرع المطهر وأنكر بعضها.
وأصبح الحج ركناً من أركان الإسلام الخمسة، وليس ذكر الحج في آخر الأركان (الشهادتان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج) إلا لأنه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين.
ثم إن في الحج فوائد دينية عديدة، فالحاج إذا نوى السفر من وطنه استحضر أعماله واستذكر سيئاته وندم عليها وتهيأت نفسه لقبول الخير فكان في ذلك طهارة من ذنوبه وحسن استعداد لطهارة نفسه وقربها من الخير وبُعدها عن الشر.
فإذا تقدم في أعمال الحج فأول ما يواجهه الإحرام، وهو أن يتجرد الحاج من كل ثوب مخيط ويلبس إزاراً ورداء ويلبس في رجليه نعلين. واختيار اللون الأبيض في الإحرام فيه دلالة على الطهارة والنظافة الحسية والمعنوية.
كما أن بياض الحجاج يدل على بياض نفوسهم ، شعارهم الدائم هو التلبية (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
والحاج وهو في هذه الحالة، كلما قابل أحداً أو دخل مجتمعاً أو صعد أو هبط كرر: لبيك اللهم لبيك، ليذكر دائماً موقفه أمام ربه وليحفظ على نفسه طهارتها وصفاءها وشوقها إلى خالقها.
ولا يزال الحاج على هذه الحالة النفسية، بين إحرام وتلبية، وتفكر في الله وتضرع إليه حتى يدخل مكة. والحاج في هذا كله يرتاض رياضة بدنية إلى جانب هذه الرياضة الروحية، فهذا العيش اليسير والملبس العادي والحركة الدائمة والسفر ومتاعبه يجعل من الإنسان رجلاً قادراً على احتمال المشاق، غير منغمس في النعيم الذي يذهب بالرجولة.
فإذا شاهد الحاج مكة ثارت في نفسه الذكريات، هذه مكة التي كانت وادياً غير ذي زرع.
هذه هي مكة التي أخذت شهرتها تنمو وتتسع حتى قصدها الناس من كل فج عميق.
هذه هي مكة التي جرت فيها الأحداث الجسام.