وإن كان مسمى التراث غير المادي حديثاً، إلا أنه المصطلح الرسمي الذي يشمل جميع التفاعلات البشرية للفرد والجماعة المتوارثة، والتي ترتبط بهم كهوية تميزهم عن الآخرين، وما يميّز هذا الإرث الثقافي أنه منظم بطبيعته، وهو ما ساهم في استدامته وبقائه مرتحلاً مع حياة المجتمعات، والذي يشمل ضمن عناصره أو أنواعه المرتبطة بالممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية السباقات التراثية، والتي تعد جزءاً مهماً في حياة العرب من قبل الإسلام وبعده، ولكن ما يهمّنا هو ما يرتبط بالفترة الإسلامية.
وكمدخل لهذا الموضوع الكبير، فالسباقات ليس حدثاً يطرأ ويتفق المشاركون عليه، بل يرتبط أيضاً بمراحل عدّة تعد جميعها تفاصيل من عناصر التراث غير المادي ذات الارتباط بالطبيعة والكون من جهة والممارسات من جهة أخرى، والتي تحتاج للتفصيل فيها إلى موضوع مستقل.
في عصر صدر الإسلام كانت السباقات حاضرة وشارك بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وحديث سُبقت العضباء، - حيث كانت للرسول صلَّى اللَّه عليه وسلم ناقة تسمى العضباءَ لاَ تُسبقُ، فجاءَ أعرابيٌّ على قعودٍ فسبقَها فشقَّ على المسلمينَ، فلمَّا رأى ما في وجوهِهم قالوا: يا رسولَ اللهِ سُبقتِ العضباءُ قالَ: إنَّ حقًّا على اللهِ أن لاَ يرتفعَ منَ الدُّنيا شيءٌ إلاَّ وضعَه». وفي حديثه صلى الله عليه وسلم بأنه لا لاَ سبقَ إلاَّ في خفٍّ أو في حافرٍ أو نصلٍ تأكيداً على هذه الرياضة وارتباطها بالحياة اليومية.
كما يتجلّى وصف الهجن كأداة سباق في قصيدة البردة، القصيدة التي عفا النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن كعب بن زهير بعد أن سمعها وألقى عليه بردته عليه الصلاة والسلام، والتي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
إلى أن وصل إلى وصف مطيّته التي لن يبلغ أرض سعاد سواها:
أمْسَتْ سُعادُ بِأرْضٍ لا يُبَلِّغُها
إلاَّ العِتاقُ النَّجيباتُ المَراسِيلُ
ولَنْ يُبَلِّغَها إلاَّ غُذافِرَةٌ
لها عَلَى الأيْنِ إرْقالٌ وتَبْغيلُ
ويتجلى من وصفه أهمية الهجن وسباقاتها، وهذا الوصف وما يليه من أبيات في قصدية كعب بن زهير تبرز رعاية النجائب من الإبل وهي إبل السباق. وفيما يلي عصر صدر الإسلام، كانت النجائب وهي الهجن الأصائل، حاضرة ومحل اهتمام الخلفاء، كما أن الشاعر عمر بن أبي ربيعة يملك النجائب ويمتطي ركابه وهي مخضّبة بالحناء ومزينة بالديباج وهو يرتدي الوشْىّ ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها الطنافس والديباج، والطنافس نوع من السجاد الإسلامي (بساط) متداخلة خيوطه وقد يكون أشبه بالخرج في العصر الحالي، وفي هذا استرشاد على ثقافة تجميل الهجن وزينتها للسباق أو للاستعراض.
وكون ما تنقله الكتب التاريخية والشعر عن وصف الهجن بمثل هذه التفاصيل يوضح مدى المكانة التي حظيت بها وأهميتها كتراث مجتمعي حي تعايش معه الإنسان العربي حتى بلغت هذا اليوم، وكانت عرضة الهجن تقام في الفترة العباسية وهي فترة الازدهار للفنون بكافة أنواعها، وليست الهجن وحدها من حظيت بهذا الاهتمام وهذه الرعاية، ولكن الخيل العربية كانت ركيزة أساسية في جانب السباق والترفيه، حيث ظهرت حلبات السباق وهي مخصصة للخيل منذ عهد معاوية بني سفيان تتسابق فيها الخيل في وقتٍ محدد. كما اهتم الخليفة هشام بن عبد الملك بسباقات الخيل، وأقام لها ميادين (حلبات)، وبذل لاقتنائها أموالاً طائلة، وذكر بأنه وصل عدد الخيل في إحدى السباقات ما يبلغ الأربعة آلاف من الخيل، وكذلك الخليفة الوليد بن يزيد اهتم بسباقات الخيل وكانت رصافة الشام منطقة لميادين السباقات.
إلا أن سباقات الخيل بلغت ذروتها في عهد الخليفة العباسي المعتصم عندما أنشأ المدينة التي كانت تعتبر رمزية التقدم في عمارة المدن والفنون، والتي نقل إليها الخلافة من المدينة المدورة (بغداد) إلى سامراء (سر من رأى)، حيث أنشأ فيها المعتصم ميادين لسباقات الخيل تعتبر الأولى من نوعها في ذلك الزمان، والتي ذكرها البروفيسور أليستر نورثيدج في كتابه أطلس آثار سامراء.
وتعتبر جزء من الفروسية والإعداد والاستعداد للغزوات والحروب، ولا تقتصر سباقاتها كرمزية على الترف، بل كونها تراث حي لا تنتهي الحاجة منه عند زوال الغرض، بل نشأت تلك السباقات تعبيراً عن الإرث الثقافي ومدى الاعتزاز به.
ولأن هذه الرياضات ركيزة ثقافية في حياة المجتمعات، امتدت وازدهرت ووصلت ألينا باعتبارها جزءاً من الإرث الثقافي لتلك الحقبة، لدليل على أهمية التراث غير المادي في قراءة تاريخ الأمم الخاص الذي يمكن التعرّف من خلاله عن نمط حياتهم، كذلك تصوّر واقع تلك المدن والحياة العامة.
** **
- مرضي بن سعد الخمعلي
@mardhisaadd