تُعد رحلات المسلمين إلى الحرمين الشريفين لأداء فريضة الحج من مصادر التاريخ المهمة، خصوصاً في تاريخ الحجاز والحرمين الشريفين (مكة المكرمة والمدينة المنوّرة)؛ لاحتوائها على معلومات كثيرة، مثل: (مسالك الطرق، أسماء الأعلام والقبائل، وأسماء الأماكن، بالإضافة إلى وجود أحداث تاريخية مصاحبة للحجاج سواءً في الطريق أو حال وصولهم الأماكن المقدسة، عادات الناس وألبستهم ومعايشهم... وغير ذلك من المعلومات المهمة التي يستقي منها الباحثون ما يشاؤون من معلومات).
وتأتي رحلات الحج التي وثّقها حجاج المغرب من تلك الرحلات المهمة، خصوصاً إذا كان راصف حروفها أحد العلماء الأعلام، ومن أولئك الذين كتبوا عن رحلاتهم للحج أبو سالم عبدالله بن محمد بن أبي بكر العيّاشي (1037 - 1090هـ)، الذي حفظ لنا التاريخ رحلاته وما دوّنه عن الحج وما يتعلق به، والبالغة ثلاث رحلات، فقد كانت رحلته الأولى عام 1059هـ، والثانية عام 1064هـ، والثالثة عام 1072هـ.
وجاء توثيقه لزيارته لهذه الأماكن كالتالي: ففي عام 1068هـ لم يوفق للحج، فكتب رسالة لصاحبه العلامة أبي العباس المليدي بيّن فيها منازل الطريق وما يتوجب عليه فعله من الأذكار والزيارات وأخذ الحيطة والحذر من عوارض الطريق وبعض النصائح المختلفة من العفو عن المسيئين وأن يدعو له حال وصوله الحرمين وغيرها من التوجيهات التي حوتها تلك الرسالة، ورغم وجازة الرسالة إلا أنها مهمة لاحتوائها على معلومات مهمة لحجاج المغرب العربي.
أما حديث العيّاشي عن رحلته للحج المسماة بـ(ماء الموائد) والتي كانت عام 1072هـ، ففيها تفصيل كثير، وتحتوي على فوائد جمّة؛ لأنه كان حينها حاجاً، فقد وثّق فيها الكثير من المعلومات، مثل: ربط الأماكن التي يمر بها في الحجاز بأحداث تاريخية أو التطرّق إلى آثار نبوية، ونقله ما يتعرض له الحجّاج من سرقة وقتل وتهديد من قبل قطّاع الطرق وما يفرضوه عليه من دفع الأموال، أو ذكره عادات أهل مكة المكرّمة شرفها الله سبحانه، وما يجري من أحداث أثناء الحج من الازدحام، وأوقات فتح الكعبة في السنة وما يجري في ذلك اليوم كعدم تواجد الرجال في صحن الكعبة حال السماح لدخول النساء للكعبة والعكس، بالإضافة أن العياشي له رغبة في استكشاف الكثير من الأماكن وعكوفه على توثيق مشاهداته، فمنها قوله ص99 حينما أراد الذهاب إلى جدة: (ولما كان لي رغبة قوية في معرفة أرض الحجاز ورؤية ما بها من البلاد غير الحرمين، عزمت على الوصول إلى جدة لزيارتها، وزيارة ما بها من المساجد والمشاهد، كالمحل الذي يقال: إن فيه قبر أمّنا حواء)، وقوله حينما عزم على زيارة الطائف ص107: (ومن الأماكن التي ينبغي للمجاور ألا يهمل زيارتها بلد الطائف فإن فيها مزارات كثيرة).
بالإضافة إلى أنه زار بعض العلماء وذكر أخبارهم وما جرى بينه وبينهم، وكذلك تحدث عن أمير مكة المكرمة حينها الشريف زيد بن محسن، وما يمتاز به من صفات حميدة، وثناء أهل مكة عليه خلال حكمه لها ودوره في حفظ الأمن واستتبابه وابتعاده عن قتل المعارضين له، وأن سجيّته العفو.
والحال ذاته حينما وصل المدينة المنورة حرسها الله من كل سوء، فقد ذكر مساجدها واحداً تلو الآخر نقلاً عن السمهودي، ودوّن مشاهداته حينها، وذكر عادات أهل المدينة في أيام الجُمع، وما يفعلونه في ذكرى المولد النبوي، وما يجري في يوم زيارة الحمزة بن عبدالمطلب- رضي الله عنه- وهو يوم محدد ومعروف عند أهل الحجاز، وكذلك عادات نسائهم ولباسهم، وكذا عاداتهم في المعاملات التجارية.
وقد نالت رحلات العياشي عناية من قبل المؤرخين والمحققين، مما تجد أثره في كثرة طبعات وتحقيقات رحلاته عند المعنيين والمهتمين بها، ولستُ في مجال المقارنة ومعرفة الفروقات بينها، إلا أن هذه العناية جاءت لأهمية ما وثّقه العياشي إبّان أداء فريضة الحج عدة مرّات.
** **
- عبدالله علي رستم