عزم ابنُ الثانية عشرة على تركِ قريتِه برجال ألمع، والارتحال إلى جازان حيثُ سَمِعَ بتوافرِ فرصٍ وظيفية في قطاع الأمن العام، وحين عَجِزَ والدُه عن ثنيه زوَّده بريالين هما كل ما استطاع أن يتدبَّره، ليقتاتَ بهما في رحلته نحو المجهول، وغابتْ به خطواتُه عن أطراف قريته ضُحىَ يومٍ من (عام1372ه=1952م)، فلما بَلَغَ وادي حلي أخذ جهةَ الجنوب مُصْعِدًا، وصادفه أحد أنسِبائه؛ فلمَّا عرف وجهته شدَّ على يَدِه، ودَسَّ في جيبه ثمانية ريالات، ثم صَعَدَ عقبةً وهبط أخرى إلى (بلدة رُجال)، وتناهى إلى سَمْعِه أن هناك قافلة يجتمع أفرادُها مساءً، على بُعْدِ عشرين كيلاً إلى الجنوب، وتتجه إلى (بلدة الدرب) عند الفجر، فحثَّ إليها الخُطى لِيَبْلُغَ مَجْمَعَها عند الغروب، ثم رافقها ماشيًا إلى (سوق الدرب)، ومن هناك ركبَ سيارة البريد المتجهة إلى جازان، وحين هبطَ جازان قصدَ مركز الشرطة حيث يَعْملُ شقيه: (أحمد)، فاستضافه وساعده على تقديم طلب لتعيينه جنديًّا في الأمن العام، وبرغم توافر الوظيفة إلا أن العُمُرَ وقفَ عائقًا، فأخذ يَتَرَدَّدُ على مدير الشرطة، ويستعينُ بمن تعاطفَ معه وعرفَ ظروفَه، حتى قَبِلَ المديرُ أن يتولَّى إعاشةَ العسكر، حتى يبلُغَ السِّنَّ القانونية.
وخلال هذه الفترة دَرَسَ على يد الشيخ حسين العماري (رحمه الله)، وكَسِبَ ثقةَ رؤسائه، واحترامَ زملائه، وفي عام(1375ه=1955ه) عُيِّنَ برتبة جندي، وانتظم طالبًا في مدرسة مسائية، واستمر في الموازنة بين أداء واجباته الوظيفية والانتظام في دراسته المسائية، حتى أتمَّ المرحلة الابتدائية عام(1379ه=1959م)، وهو ابن تسع عشرة سنة؛ إذ ولد عام(1360ه=1940م).
أنهى المرحلة الابتدائية وقد تعلق بالدراسة، ورأى فيها مستقبله، فرنا بصره إلى مدينة شقراء حيث يدرسُ في معهدها مجموعةٌ من أبناء رجال ألمع، منهم: (الشيخ شقيقه أحمد بن عبدالله الألمعي، والدكتور زاهر بن عواض الألمعي، والشيخ محمد بن أحمد العسكري)، وقد راسلهم فلقيَ منهم تشجيعًا على اللحاق بهم، فاتخذ قراره المصيري بالاستقالة من الوظيفة المضمونة، والسعي وراء الطموح المجهول.
وأين شقراءُ من جازان؛ عقباتٌ، ومَهامِهٌ، وصحارٍ؛ ولكأنما عناها القائل:
هيهاتَ هيهاتَ قد أمستْ مجاورةً
أهلَ العَقيقِ، وأمسينا على (سَرَفِ)
حيٌّ يمانونَ، و(البطحاءُ) مَنزِلُنا
هذا لعَمْرُكَ شَمْلٌ غيرُ مُؤْتَلِفِ
أجل إنَّه دربٌ طويلٌ طوتْهُ الهمةُ العالية، والإرادة القوية، والوعي المبكر؛ فالتحق بمعهد شقراء عام(1381هـ 1961م)، وبعد انتظامه في الدراسة عَلِمَ بافتتاح معهدٍ علميٍّ في أبها، فانتقل إليه من العام التالي، وفيه أتَمَّ دراستَه المتوسطة، ثم الثانوية (عام1385هـ - 1965م)؛ وهي شهادةٌ مُؤهِلَةٌ لوظيفة مرموقة في إحدى الجهات الحكومية؛ يَسُدُّ منها حاجةَ أسرته، ويكوِّنُ نفسَه، ولكنَّ طموحَه لم يَقْنَع بهذا الحَدِّ من التعليم، وقد ذاق طعم المعرفة، ولذة النجاح، فاختار الطريقَ الأصعبَ؛ والتحق بكلية الشريعة في الرياض، في العام نفسه، ولم يكن بدٌ من العمل؛ فهو لا يقبلُ الاعتمادَ على غيرِ نَفْسِه، فكان يجمع بين الوظيفة والدراسة، وكلما تعارضا ترك الوظيفة إلى غيرها؛ فعمل في وظيفة (محاسب) في وزارة المواصلات عام(1387هـ -1967م)، ثم انتقل للعمل رئيسًا لقسم المحاسبة، ثم مديرًا لإدارة الامتحانات في تعليم البنات بالأحساء، ولم يكن أنهى دراسته الجامعية، فقضى ما تبقى له في الجامعة في ترحال متصل بين مقر عمله في الأحساء وجامعته في الرياض، حتى نال الشهادة الجامعية عام(1389هـ - 1969م)، فكُلِّف بالعمل مديرًا عامًا لتعليم البنات في الأحساء، وأمضى في هذا المنصب ثلاثين عامًا، حتى تقاعده عام(1420هـ - 1999م).
وقد كانت هذه السنوات الثلاثون مكتظةً بالعمل الدؤوب، والنشاط المستمر، فكُلِّلَتْ بالنجاحات، والمشاركات؛ إذ يكن يتنصَّلُ من مُهِمَّةٍ تُوكلُ إليه، أو مشاركة يُدعى إليها، وقد كان - لثقة المسؤولين فيه - مَحَطَّ التكليفاتِ الكثيرة، والعضويات العديدة، إضافةً إلى مسؤولياته الإدارية؛ فقد رأسَ الوفدَ السعودي المشارك في المنظمة العربية للتربية والتعليم (الأليسكو)، ورَأَسَ لجان التعاقد خارج السعودية لمعلمات التعليم العام، ثمَّ رَأَسَ لجان التعاقد للكليات المتوسطة، والمرحلة الجامعية ، ورَأَسَ لجنة تطوير مرافق التعليم بمنطقة جازان.
كما كان عضوًا في المجلس العلمي بالرئاسة العامة لتعليم البنات، واللجنة الاستشارية لمنشآت رئاسة تعليم البنات، ولجنة دراسة معايير الأراضي لمدارس تعليم البنات، واللجنة المشرفة على مدارس أرامكو السعودية بالمنطقة الشرقية، وجائزتي الأمير محمد بن فهد للقرآن والسنة، وللتفوق العلمي، و هو عضو مشارك في مؤسسة الفكر العربي، منذ تأسيسها.
ولم تشغل الدكتور علي الألمعي هذه المسؤوليات العديدة، والمتنوعة عن إكمال دراساته العليا، فنال درجة الماجستير في اللغة العربية والدراسات الإسلامية، عام(1414هـ -1994م)، كما نال درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، والتاريخ السياسي، عام(1420هـ -2000م) وقد صدرت في كتاب بعنوان: (القضية الكشميرية في الكتابات العربية)، عام(1424هـ - 2003م)، كما صدر له كتابان آخران هما: (الغلو والتطرف والإرهاب)، و(من أخبار القرامطة)، إضافةً إلى عديد المشاركات الصحفية، والمنبرية.
أما جهوده في إدارة تعليم البنات بالأحساء فقد حقَّق رضا المواطنين والمسؤولين على حدٍ سواء، فقد كُلِّف مديرًا عامًا لتعليم البنات بالأحساء عام(1390هـ - 1970م)، والمدارس مقتصرة على عدد محدود للمراحل الثلاث: (الابتدائي، والمتوسط، والثانوي)، في مبانٍ مستأجرة، وخلال إدارته التي امتدت ثلاثين عامًا، وظَّف سخاء الدولة، وحرصها على التعليم، وعلاقاته الطيبة بالمسؤولين في رئاسة تعليم البنات؛ سخَّر ذلك كُلَّهُ للنهوض بتعليم البنات في الأحساء، فانتشرت المدارس في القُرى والهِجر، وأُنشِئتْ لها المباني الحكومية المجهزة بكامل المستلزمات التعليمية، وأُحْضِرَت لها المعلمات المؤهلات، وطالبَ بافتتاح فروع للجامعات، وتحقق ذلك؛ فتوافرت كليات متنوعة للبنات، في التربية، والآداب، والعلوم.
وقد كان لوجاهته وعلاقاته الحسنة بالناس دورٌ في حَلِّ المشكلات التي تعترض إنشاء المدارس، فقد اطمأنَّ الجميعُ أنه ليسَ من ذوي المطامع، ولا المصالحِ الشخصيةِ، ولا الانحياز لفئة على حسابِ فئة، ووثقوا بنزاهته، ووطنيته الحقَّة، وإخلاصه لمصالح الناس، فكانت كلمته هي الأخيرة في كل اختلاف، ورأيُه المقبولَ حين تشتبكُ الآراء، وتتعارضُ المصالح، لأنه تسامى فوق كل انتماء لا يُحقق طموحات الدولة، وتوجهات القيادة المهمومة دائمًا براحة المواطنين وخدمتهم، فلم يكن يلجأ إليه صاحبُ مظلمةٍ إلا أنصفه، ولا صاحبُ حاجةٍ إلا خرج من مكتبه راضيًا بتحقيقها، أو قانعًا بأنها ليست من حقه.
ويشهدُ على هذه الإيجابية، والسمو والتوفيق مواقفُ كثيرة يحكيها مَن عاصرها، ويرويها من شَهِدَها، وقد ذكر معالي الدكتور عبدالله التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود في كتابه: (لمحات من الذاكرة) موقفًا مشرِّفًا للدكتور علي الألمعي؛ حين تقرَّرَ افتتاحُ فرعٍ لجامعة الإمام محمد بن سعود في الأحساء، ولم يتوافر المَقَرُّ الملائم؛ فيقول: «وفي الأحساء بمناسبة زيارة الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله لها، وكنت مشاركاً في المناسبة، تقدم الأهالي بطلب افتتاح كلية للشريعة وكان لدى الجامعة مشروع لافتتاح كلية في منطقة أخرى، فوجه رحمه الله بأن تكون في الأحساء، فَحَوَّلَتِ الجامعةُ المشروعَ إلى الأحساء. وتتكرر مشكلة المقر المناسب، فكان من الأخ الدكتور علي بن عبدالله الألمعي حفظه الله ووفقه - وكان مسؤولاً عن تعليم البنات في الأحساء - موقفٌ متميز جزاه الله كل خير، حيث رتب مع المسؤولين في رئاسة تعليم البنات تسليمَ مبنىً تعليميٍ كبير، لم يُستعمل بعدُ إلى الجامعة ليكون مقرًا للكلية، حتى ترتب الجامعة أمرها، فافتُتِحَتْ كُلِّيةُ الشريعة، وبقيت في هذا المبنى سنوات حتى تم ترتيبُ مكانٍ مناسبٍ لها».[لمحات من الذاكرة، ص(182)].
وقد اتسمت شخصية الدكتور علي الألمعي بسجايا كريمة، وشمائلَ نبيلة، لم يتكلَّفها؛ بل نبعت من نشأته القروية، وروحِه التواقة، وعقلِه المستنير، وأفُقِه الواسع، وتجاربِه الإنسانيةِ الممتدة؛ وتَدَيُّنِهُ الفطري، فلا تجدُ ميدانًا للبذل إلا دفعه الكرمُ إليه، ولا موقفًا يستدعي الإقدام إلا كان في الطليعة، ولا مجالًا للإصلاح إلا كان مبادرًا إليه؛ متحملاً في درب مروءته المتاعب برضا نفسٍ، وطيب خاطر:
تَلِذُّ لَهُ المُرُوءَةُ وَهْيَ تؤْذِيْ
وَمَنْ يَعْشَقْ يَلِذُّ لَهُ الغَرَامُ
ولم يكن منكفئًا على وظيفته أو منصبه، مكتفيًا بنجاحاته المشهودة، بل كان فوق ذلك رجلاً اجتماعيًّا من طراز رفيع، وكان بيتُه مقصدَ الزائرين، وذوي الحاجات، وطلاب العون، والرأي، حتى أصبح رمزًا من رموز الأحساء الوطنيين الذين يَعْرِفُ لهم ولاةُ الأمرِ قدرَهم، ويعرفُ المجتمع عطاءاتِهم، وتضحياتِهم، وإسهاماتِهم في شتى الميادين الوطنية، التنموية، والخيرية، وذلك ما نوَّه عنه الشاعر محمد الزيداني حين امتدحه قائلاً:
أهلاً أبا الجودِ كم أوليتَ مِن مِننٍ
ما كُنتَ فيهنَّ بالمعروفِ مَنَّانا
عشقتَ فضلَ ثوابِ المنفقين فَما
فتئتَ تُنفقُ أشكالاً وألوانا
قد سارَ جودُك فيما بيننا مثلاً
والناسُ كادتْ تراهُ اليومَ إنسانا
وهو مرجعٌ لأبناء منطقة عسير في المنطقة الشرقية، فهو كما يصفه الأستاذ الدكتور ظافر الشهري - منذ جمعتهما الأحساء - المقصدُ إن أعوزهم الرأي السديد، أو العون الصادق، فلطالما بذلَ العونَ وإن لم يُطلبْ منه.
ولم يقتصر حضورُه المشرِّفُ على الأحساء، حيثُ عَمَلُه وإقامتُه، بل كان حضوره في منطقة عسير ومشاركاته كما هي في الأحساء؛ وجيهًا في كل مناسبة وطنية، أو اجتماعية، فهو وجهٌ لا يغيبُ، ومفقودٌ إن غيَّبه سَبَبٌ، لا يتأخر عن استقبال كبار ضيوفها، والمساهمة في حل قضايا المجتمع، بجاهه وماله، وقد كان عضوًا في اللجنة الاجتماعية لأهالي منطقة عسير، واللجنة المحلية للسياحة بمنطقة عسير، والمجلس الاستشاري بوزارة الشؤون الإسلامية بمنطقة عسير.
كما أن له حضورً مؤثِّرًا في شؤون محافظة رجال ألمع، فهو عضو المجلس المحلي، ومُمَثِّلُه في تطوير القرى والمراكز التابعة لمحافظة رجال ألمع، ولم تَمنعه مسؤولياتُه وبُعدُه المكاني عن حضورِ مناسباتِ المحافظة، ومشاركةِ شيوخِ قبائلها ووجهائها في حل النزاعات، أو في مواقفِ العطاءِ، والإصلاح.
وقد عُنِيَ بالتعليم وهو همُّه منذ بداياتِ حياتِه؛ فوجَّه جهودَه لتشجيعِ الطلابِ والطالباتِ في رجال ألمع من خلال تقديمه (جائزة الدكتور علي الألمعي للتفوق الدراسي)؛ وهي جائزة خَصَّصَ لها (مئة وخمسين ألف ريال) سنويًّا، بالتعاون مع إدارة تعليم رجال ألمع، يقامُ احتفالُها كُلَّ عامٍ، وتُمنح للمتفوقين والمتفوقات في مراحل التعليم العام الثلاث، وقد أحدثتْ تنافسًا مثمرًا بين الطلاب والطالبات، كما أنشأ مكتباتٍ نموذجيةً في بعض مدارس المحافظة بإشراف إدارة التعليم، ولأنه أصبحَ علامة للعطاء والتشجيع، وأضحى دليلاً على العصامية والنجاح، ورمزًا للانتماء والوطنية فقد حَمَلَتْ المدرسة التي أقيمت في قريته اسمَه، تكريمًا له، وتقديرًا لعطاءاته الكبيرة، في شتى مجالات البناء؛ فهو كما وصفه رفيقُ دربه الدكتور زاهر بن عواض الألمعي: «رائدٌ من رواد التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية، ومن أبرزِ الكرماء».[اللطائف والقطائف، ص(185)].
وإني لأعجبُ كلما زرته في منتداه الأبهوي، الذي يقصدُهُ أصدقاؤه، ومحبوه، وأقاربه عصرَ كُلِّ يومٍ مُدةَ الصيف، أعجبُ لهذا التنوّعِ في قُصَّادِ مجلسه؛ إذ تجد المثقفين، والأدباء، والشيوخ ووجهاء المجتمع، والشباب، وحتى الأطفال، كلُّ أولئكَ يضمُّهم مجلسه عصار كل يوم؛ تتبدَّل الوجوه ويبقى التنوُّعُ. ثم أعجبُ لهذه الطاقةِ، والحيويةِ، التفاؤلِ، والحُبِّ، والأملِ، والتَّطَلُّعِ نحو الكمالاتِ الإنسانيةِ، فلا تَسمعُ شكوى، ولا كلمةً يائسة، ولا لومًا، ولا حسرةً، بل ثقةً بالله، ثم بالوطن، والقيادة، والناس، واستشرافًا لغدٍ أجمل، وشكرًا لله على نعمه التي يَتَلَمَّسُها في كُلِّ مقام.
** **
- إبراهيم مضواح الألمعي