|
في ذكرى البيعة (5)
الفهد ملكاً وخادماً للحرمين الشريفين
د، محمد بن عبدالله آل زلفة
|
في شهر شعبان 1402ه فقدت المملكة الملك الصالح خالد بن عبدالعزيز الذي ستظل فترة حكمه غرة مشرقة في تاريخ هذه البلاد،
وصعد إلى سدة الحكم الملك فهد بن عبدالعزيز الذي بويع بالملك في الحادي والعشرين من شعبان سنة ألف وأربعمائة واثنين من الهجرة وهو هذا اليوم الذي نستلهم ذكراه ونحتفل بمرور عشرين سنة على هذه البيعة الميمونة،
كان الفهد أثناء فترة حكم الملك الصالح خالد بن عبدالعزيز يتمتع بصلاحيات واسعة في إدارة شؤون البلاد أوكلها إليه الملك خالد رحمه الله لما يعرف عنه من تفان في العمل ومن همة عالية لا ترضى إلا بالوصول إلى الأعلى والأفضل لتحقيق ما يسعد وطنه ومواطنيه، ولما يملكه من خبرة إدارية ومهارة سياسية اكتسبها من خلال ما تولاه من مهام جسام تحت إدارة أخويه سعود وفيصل خلال العقود الماضية، وتشربها منذ شبابه في مجالس والده، فلقد كان الفهد في نظر الملك الصالح الرجل الذي يتحمل مسؤولية قيادة أمته ويدرك بشكل جيد ما أمته بحاجة إليه فهو أقرب إلى الجيل الذي ينتمي إليه الفهد نفسه، وهذه والله قمة الواقعية من الملك الصالح تغمده الله برحمته،
تولى الملك فهد قيادة السفينة التي كان أحد رموز قباطنتها لأكثر من ثلاثة عقود، قادها بكل ما يملكه من مهارة وخبرة ووضوح رؤية، قادها ليكمل مسيرة البناء من خلال تنفيذ الخطط الخمسية التي كان أبرز مهندسيها خلال السنوات السابقة حينما ضم في حكومته منذ ان كان ولياً للعهد ونائباً أول لرئيس مجلس الوزراء كفاءات شابة تدخل ضمن حكومة موسعة لتكون للدولة عوناً على تحقيق الأهداف التي رسمتها خطط التنمية بكل وضوح،
كان الملك فهد يدرك خطورة الاعتماد بشكل مطلق على مصدر واحد للدخل الوطني وهو ما ظل محصوراً طوال العقود الماضية على البترول، فلكي يعدد مصادر الدخل لضمانة الاستقرار الاقتصادي للمملكة، التفت إلى ضرورة توظيف العائدات الضخمة من البترول في الصناعات الثقيلة المستمدة من البترول ومشتقاته ولا سيما أن المملكة تملك المقومات الأساسيات لمثل هذه الصناعات وبدأ ببناء أكبر مدينتين صناعيتين في الجبيل وينبع وهما من أكبر المدن الصناعية في العالم،
ثم أولى الجانب الزراعي اهتماماً بالغاً حينما وظف أموالاً طائلة في التنمية الزراعية بهدف سد حاجة البلاد من الغذاء بل وإقامة صناعة قائمة على الزراعة فتحولت الصحاري إلى جنان خضراء وأصبحت المملكة من الدول المصدرة للقمح والعلف والحليب بينما كانت إلى عهد قريب من أكبر الدول المستوردة لها، بدون شك ان لكل تجربة وخاصة من هذا النوع غير العادي ما قد يعتورها من مصاعب، وكل تجربة تخضع لتقييم، فلقد نجحت بشكل مذهل تجربة الصناعات البتروكيماوية على المستويين الاقتصادي والتنمية البشرية والاجتماعية، أما التجربة الزراعية بشكلها المطلق فقد خضعت لإعادة التقييم واكتفي منها بما هو ضروري لسد الاحتياج الوطني،
أولى الملك فهد المقدسات الإسلامية في المملكة وخصوصاً الحرمين الشريفين اهتماماً منقطع النظير فشرع في تنفيذ أكبر توسعة يعرفها الحرمان في تاريخهما ولا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يقوم بما قام به الملك فهد في قادم الأيام، وكان هذا الاهتمام المذهل بدافع إيماني صادق نذر له الملك وقته وماله، فلقد كان يشرف على التوسعة خطوة بخطوة وبنفسه مباشرة، توج هذا الاهتمام الذي يدعمه إيمانه الصادق بأن أعلن في إحدى زياراته للمدينة المنورة للإشراف على توسعة المسجد النبوي تخليه عن لقب صاحب الجلالة واستعاضه بلقب خادم الحرمين الشريفين قائلاً: «إنه أحب لقب إلى نفسي»،
لقد اختار الفهد أن يجعل اسمه وفعله خالداً مدى الدهر من خلال إنجاز مشروعي التوسعة المذهلة في الحرمين المكي والمدني،
أما إنجازاته الأخرى الكبيرة والكثيرة التي لا تعد على مستوى وطنه والعالم العربي والإسلامي فإنها حتماً ستحتل الصفحات الناصعة من تاريخ هذا القائد الذي حاز على احترام وتقدير كل من عرفه وكل من لمس أعماله،
الملك فهد له مهابة وله قوة حضور وله رؤية واضحة للأمور وله شخصية قوية مهيبة إلا أنه ورغم هذا يتمتع بصفات القائد المتواضع المحبوب القريب إلى قلوب شعبه وأبناء أمته يتمتع بالرفق والعطف والرحمة يمد يد العون لكل صاحب حاجة من أبناء وطنه أو غيرهم،
الملك فهد صاحب رأي ثاقب ورؤية واضحة يؤمن بالمصارحة والحوار ديمقراطي يؤمن بإشراك الآخرين في الرأي طالما هذا الرأي يصب في مصلحة الأمة ومصلحة الجميع،
عمل منذ البداية على تنمية العقول البشرية في وطنه من خلال التعليم وأعدهم ليكونوا شركاء في السلطة وشركاء في الرأي وعندما توفرت المقومات الأساسية لأصحاب الرأي الممثّلة في الشرائح المثقفة وأصحاب الاختصاص وحملة الفكر من أبناء شعبه الذين تولاهم بعنايته،
منذ اليوم الأول لتوليه منصب أول وزير للمعارف، وصل إلى قناعة بأنه آن الأوان لإشراك هذه النخب في مجالس منظمة ليكونوا شركاء لأصحاب القرار في المشورة بالرأي لما فيه مصلحة الأمة والوطن،
ولذا فقد بدأ أول محاولة لإشراك أصحاب الرأي من المواطنين المؤهلين عندما أصبح وزيراً للداخلية حين وضع نظاماً متطوراً للمقاطعات، ولكن ظروف عقد الستينيات الميلادية وما مرت به بلادنا والبلاد العربية من متغيرات أجلت صدور هذا النظام،
وكان إشراك الكفاءات الوطنية المؤهلة من أصحاب التخصصات ومعظمهم من أساتذة الجامعات في حكوماته المتعاقبة، كانت الخطوة الأولى لتوسيع قاعدة المشاركة من خلال مجلس الشورى الذي أخذ يعد له العدة منذ الوهلة الأولى لتوليه مقاليد الحكم، إلا أن ما عصف بالمنطقة من أحداث أدى إلى تأخير إعلان قيام مجلس الشورى الذي دشنه حفظه الله في 16 من شهر رجب 1414ه والذي عبر عن شعوره بهذه المناسبة «بأنها أغلى مناسبة في حياته»،
ويعد من أهم منجزات الفهد في سبيل الإصلاح السياسي الذي شمل وضع أنظمة متطورة ومقننة تشمل نظام الحكم والشورى ومجالس المناطق، حيث يؤمن الفهد بأن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يتم إلا بالمشاركة لاسيما وقد توفر مناخ ومقومات المشاركة من حيث ارتقاء وعي الشعب السعودي وتحمله مسؤولية المشاركة بما أصبح يحمله من علم وخبرة وتجربة،
وإذا كان الفهد صاحب المبادرات الشجاعة في وضع الأنظمة والقوانين المتعلقة بالإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري والتي ستظل تحمل اسمه مكتوباً بأحرف من نور في تاريخ هذه البلاد، فإن خطواته الشجاعة في إصلاح النظام القضائي المتمثل في صدور الأنظمة الثلاثة التي صدرت خلال الأشهر القليلة الماضية وهي نظام المحاماة ونظام المرافعات ونظام الإجراءات الجزائية تعد من أهم الإصلاحات التي تثبت بكل جلاء وضوح الرؤية لدى هذا القائد العظيم الذي يجعل دائماً في الحسبان أهمية مواكبة المتغيرات والتطورات التي يعيشها مجتمعه، فيكون هو صاحب المبادرة ولا تملى عليه وهذه صفة بارزة يتحلى بها الكبار من الحكام وفهد دائماً في مقدمة الكبار،
من الإنجازات الكبرى التي سيسجلها تاريخ هذا الوطن بكل افتخار للملك فهد إنهاء مسائل الحدود للمملكة وهي من القضايا الشائكة التي لازمت المملكة منذ عهد المؤسس، وكانت تسبب قلقاً في علاقات المملكة مع جيرانها،
وقضية استغلها المغرضون كحالات توتر في علاقات المملكة الدولية، فأخذ الفهد على عاتقه إنهاء هذه المسألة إنهاء كاملاً ودون تفريط بشبر واحد من أرض المملكة ودون إلحاق ضرر بأية دولة جارة أو شقيقة،
وهكذا أمن الفهد لبلاده كامل سيادتها على أرضها وكامل أمنها في حدودها البرية والبحرية وأغلق ملفاً لقضايا ظلت عالقة لسنوات طويلة ووضع للمملكة خارطة سياسية مستقرة،
|
|
|