|
في ذكرى البيعة (1)
الفهد سيرة ملك وبناء أمة
د. محمد بن عبدالله آل زلفة
|
بماذا تقاس فترات العظماء من الحكام، إنها تقاس حتما بالمنجزات، تقاس بضخامة العطاء، تقاس بنفاذ الحكمة، تقاس بالصدق والإخلاص والتفاني في خدمة أمتهم وبلادهم.
إذن الملك فهد يحتل بشهادة التاريخ ذروة كل هذه الخصال. والملك فهد بن عبدالعزيز يمثل الجيل الثاني بعد جيل التأسيس الذي قاده والده العظيم الملك عبدالعزيز مؤسس الدولة السعودية الحديثة.
كانت ولادته بعد إحدى وعشرين سنة من استعادة والده العظيم لمدينة الرياض عاصمة ملك آبائه وأجداده. وكانت إطلالته على هذه الحياة مصدر بشر وفأل لوالده ولهذه المملكة ففي عام ولادته تم ضم حائل إلى ملك عبدالعزيز وتم له في نفس العام إتمام ضم منطقة عسير. ولهذين الحدثين ما لهما من أهمية قصوى في ترسيخ قواعد الوحدة الوطنية واكتمال رسم الصورة الواضحة لمستقبل المملكة السياسي. حيث توالت تباشير النصر بضم الحجاز بعد ثلاث سنوات من تاريخ ولادة الفهد ثم اكتمل البناء السياسي لهذا المنجز الوحدوي الكبير بإعلان مسمى المملكة العربية السعودية في 21 جمادى الأولى 1351ه/22 سبتمبر 1932م.
كان الجيل الأول من أبناء الملك عبدالعزيز وهم تركي وسعود وفيصل ومحمد وخالد ممن ساهم في المعارك الحاسمة لتوحيد البلاد. فنالوا من شرف المشاركة تحت راية والدهم في توحيد بلاد كانت متشرذمة سياسيا، متخلفة حضاريا موغلة في جذور الجهالة حتى في أمور دينهم، تعيش حياة أقرب ما توصف به عصر جاهلية الجزيرة العربية قبل الإسلام من حيث الاقتتال وطلب الثأر وسيادة الفوضى وتعدد الزعامات القبلية. فكان دور جيل التأسيس هو لمّ شعث هذه الأمة في هذه الصحراء الفقيرة تحت مظلة دولة واحدة. تحكم فيهم كتاب الله وسنة رسوله وهما العدل الذي لا يمكن أن تنصاع قبائل العرب لغيره. أما الجيل الثاني من أبناء الملك عبدالعزيز الذي يمثل الفهد أكبر أقطابه فقد أعدوا للمرحلة التالية من ترسيخ قواعد بناء الوحدة الوطنية التي أرسى قواعدها جيل التأسيس وهي مرحلة تعد مكملة للمرحلة الأولى وربما تفوقها في الأهمية، حيث هي مرحلة بناء المؤسسات والبناء الإداري والحضاري الذي من خلالها يبنى الإنسان، والإنسان هو العنصر الحيوي الهام في بناء الأمم.
من هنا كان اهتمام الملك عبدالعزيز بتنشئة وتربية الجيل الثاني وإعدادهم للمرحلة التي يتوخى منهم القيام بها. وكان الفهد في طليعة هذا الجيل فكان أول من دخل مدرسة الأمراء في قصر والده في الرياض وهي أول مدرسة شبه نظامية تعرفها العاصمة جلب لها المدرسين من خارج نجد الذي لم يكن لها سابق عهد بغير التعليم التقليدي، ثم ألحقه بالمعهد العلمي السعودي في مكة المكرمة ربما خلال الشهور التي يمكثها الملك عبدالعزيز في الحجاز من كل عام.
وكان الفهد محباً للعلم والقراءة والاطلاع وتثقيف الذات وكان يرى ألاّ طريق لنهضة الأمم إلا من خلال التعليم، ومن هنا بدأ اهتمامه المتزايد بالتعليم الذي جعله شغله الشاغل ومنهجا ظل سنوات طوال يرسم ملامحه إلى أن يحين الوقت لتبنيه برنامج عمل ملموس في قابل الأيام، لأمة ظلت محرومة من التعليم قرونا طويلة ليعوضها ظلم القرون وظلم حكومات همشت الجزيرة العربية من المشاركة في أي نصيب مما كانت تحظى به معظم الأقطار، حتى من التعليم الديني الذي هو فرض على كل مسلم ومسلمة حرمت منه.
كان الفهد يحظى باهتمام كبير من قبل والده لما كان يرى فيه من الخصال التي تؤهله لمستقبل ريادي في أمته وكان ملازما لمجلسه يتعلم من مدرسة عبدالعزيز في الإدارة والحكم والسياسة وكان يوكل إليه مهام فصل الخصوم بين العوائل والقبائل، وأصبح موظفا سعة معرفته في شئون القبائل وإدارة رجال الصحراء بل كافة أقاليم المملكة، تلك المعرفة الواسعة التي تزود بها بالإضافة إلى مجالس والده من خلال أخواله آل السديري الذين تولى عدد منهم مقاليد حكم مقاطعات واسعة في شمال وجنوب وشرق وغرب المملكة الذي كان يحرص على مقابلتهم كلما زار أحد منهم الرياض لمعرفة أحوال المناطق، وكانت والدته الأميرة حصة بنت أحمد السديري رحمها الله التي اشتهرت بعقلها الراجح وهمتها العالية وحرصها الشديد على تربية أبنائها تربية سليمة صحيحة حتى انها كان تقوم بنفسها بزيارة المدرسة التي يدرسون بها لتفقد أوضاعهم وسؤال مدرسيهم عنهم. انعكس هذا الاهتمام من قبل أب عظيم وأم عظيمة على تربية الأبناء السبعة فهد وسلطان وتركي ونايف وسلمان وأحمد الذين يمثلون لآلىء العقد من الجيل الثاني من أبناء عبدالعزيز. في هذا المناخ الأسري المترابط والإعداد الجيد والتحفيز لمواجهة المستقبل بعدة تتناسب مع المتغيرات والتطورات التي تشهدها البلاد يوما بعد يوم في مسيرة بنائها، أعد الفهد ليكون مشاركاً فاعلاً تحت قيادة والده واخوانه ثم قائداً لمسيرة هذه الأمة في أهم مراحلها.
لا نعرف أن للفهد هوايات كثيرة تخرج عن نطاق حبه للعلم والتعليم واقتناء الكتب النادرة، وحبه المطلق للفروسية حتى ان معظم مصروفه كان يصرفه على نوادي الخيل، بل كان يصرف جل وقته في مجالس والده يتعلم الحكمة وفنون إدارة مملكة الصحراء ومعرفة القبائل وحياتها وظروفها الاجتماعية، غارقاً في استشراف المستقبل لتغيير نمط حياة الصحراء وإدخال أهلها إلى سلم الحضارة الحديثة.
اصطحبه والده في زيارته لمصر وأشركه في الوفد السعودي برئاسة أخيه الأمير فيصل لتوقيع المملكة على إنشاء هيئة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو كدولة مؤسسة عام 1945م/1364ه. وهو لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره بعد.
كما بعثه والده رحمه الله يمثل المملكة في حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية ملكة انجلترا عام 1953م، مكنته هذه الرحلات الدولية من الاطلاع على ما وصلت إليه تلك البلدان من تقدم حضاري وصناعي واقتصادي مرده في الدرجة الأولى إلى اهتمام تلك البلدان بتعليم شعوبها.
|
|
|