(أقل الناس حظاً في هذه الصناعة من اقتصر في اختياره ونفيه، واستجادته واستسقاطه على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة)..
القاضي الجرجاني.
لعل من الجميل فعلاً أن يتولى أبو مدين عرض ما يضايقه في بحثي ليثبت جهدي أمام القراء، فالنماذج التي اختارها تذهب مذهباً مخالفاً لما يبتغيه من انتقاص، وهذا دليل على أنه ما زال يعاني العثرات في القراءة والكتابة.
وقد وجدت أيها القارئ العزيز أن أبا مدين في الحلقات الماضية جميعها شتّام، يكيل السباب في كلامه كله، فقال عني: (جاهل)، و(النابه) !! و(الصادق)!! و(المفبرك). وقال: (أعانه الله على فهمه وإدراكه) (الذكي)!! و(بعيد عن أدب النفس بعد المشرقين)، وقال (لا يكاد يفقه حديثاً)، و(يا شاطر)، (تلميذ الابتدائية أكثر منك وعياً)، وأنني لا أعي ما أقول، وقال: (يخرّف)، و(كاذب)، وقال: (كأنه فزع)، (بلا وعي)، و(الفهيم).. وأنا أريد أن أحكّم القارئ، فبالله أهذا نقد أدبيّ، أم زعيق (وبربرة)؟؟. وفي الحقيقة فإن من يعرف أبا مدين لن تفجئه كل تلك الشتائم، وقد صدرت عن رجل نيّف على الثمانين، ذلك أن هذا الرجل لا يحسن سوى الشتم، ولأني قرأت نتاج أبي مدين كله فإن معرفة تلك الشتائم ليست جديدة عليّ، وسيجد قارئ كتبه كلها الكثير من أمثال تلك الشتائم التي رغب في بقائها شاهدة عليه مثل وصفه لكثيرين بهذه الكلمات: (السخف، شخص بدائي، تافهة، شخص مريض، يفتقر إلى أدب النفس...). وقد أورد أبو مدين في كتابه أمواج وأثباج أن (الشتم سلاح السوقة والرعاع والأطفال في الأزقة والشوارع) (235). وسياق ذلك أن كاتباً اسمه محمد فريد سيالة كتب في مجلة (صوت المربي بتاريخ 22-12-1955م) رداً على مقال لأبي مدين نشره في المجلة ذاتها بعنوان (أحاسيس)، ويبدو أن سيالة شتم أبا مدين، فكان رد أبي مدين أن قال: (إن الدين الإسلامي لا يدعو إلى الإصلاح بالشتم والتنقص، وكذلك الأديان السماوية الأخرى... والحديث النبوي يعلمنا بأن الرفق لا يدخل في شيء إلا زانه، وأن العنف لا يدخل في شيء إلا شانه. أجل لو عرف سيالة خلق الدين الإسلامي لما كتب مقالته تلك الآثمة ولما لجأ إلى الخصام والشتم, وإطالة اللسان، ولكنه لم يتعلم من الإسلام كما يتعلم الناس المتفقهون، ولعله يعتقد أن الإسلام يبيح له كل شيء، ويبيح له الشتم، إساءة الظن، القذف، الغرور، الكبرياء، وفي الحديث الشريف (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)...) (أمواج وأثباج:247). وأقول لأبي مدين ما أشبه الليلة بالبارحة. كيف ترضى للناس ما لا ترضاه لنفسك؟! وأسألك هل مقالة سيالة آثمة لأنها شتمتك؟ وماذا تقول في شتائمك للناس؟ فانطبق عليك قول الشاعر:
خُلقت مبرأ من كل عيب
كأنك قد خُلقت كما تشاء
بل إن أبا مدين في كتابه (الحياة بين الكلمات) يصل إلى مستوى يذكرنا بالعجائز اللاتي لا يستطعن شيئاً سوى الدعاء، فكان رده على لويس عوض كرد الولايا على من يكرهن. مع أن الأديب والمحقق الكبير محمد محمود شاكر ردّ عليه بمنطلقات علمية، لا شتائم أبي مدين التي لا تقدم شيئاً، والشتم كما نعرف حيلة الضعفاء، وأظن أن من تسلح بالعلم يستطيع الرد على أمثال لويس عوض دون أن يدعو عليهم أو يسبهم.
وفي كل مرة يكتب فيها أبو مدين عني يؤكد صدق أطروحتي المركزية في بحثي عنه، وهو أن أبا مدين لم يقدم أدباً، وأن ما خوّل له الانتشار مجموعة من المصادفات كان آخرها تسنّمه إدارة نادي جدة الأدبي، وهذا أدخله في طائفة الوجهاء، فأبو مدين اسم كبير، ولكن على المستوى الاجتماعي فقط، أما في النقد الأدبي فهو منفصل عن الخطاب النقدي الذائع في زمنه، وفي صحافتنا، كما نجده لدى عزيز ضياء وعبد الله عبد الجبار ومحمد حسن عواد، وزميله في تأسيس صحيفة الأضواء محمد سعيد باعشن. هذا الناقد الذي قدم أطروحات نقدية بالغة الأهمية في زمنه، وهو ما لا نجده لدى شريكه أبي مدين. ففي الوقت الذي كان باعشن يتحدث فيه عن الشعر الجديد لدى السياب وعبد الصبور والبياتي بلغة نقدية أصيلة، كان أبو مدين يسعى في بث فكرة أن الناقد كراعي المواشي، وأن المواشي - وأرجو أن تعذرني أيها القارئ - هم المبدعون. ومهلاً عزيزي القارئ إليك هذا النص الذي أثبته أبو مدين في كتابه أمواج وأثباج تحت عنوان (رسالة النقد). وفيه يقول: (إن الناقد بالنسبة للمنتج هو بمثابة الراعي وراء القطيع من المواشي. وهو إذا غفلت عينه فيحدث. (1)غزو الذئب. (2) انطلاقها في الزرع. وكلا الأمرين فيهما خسارة مشتركة. إن تجريد النتاج من عوامل النقد ضرر على أي مجتمع، فصاحب النتاج القوي لا يخشى سطوة النقد، أما صاحب النتاج الغث فهو الذي يخشى النقد).( أمواج وأثباج: 98 100). بل إن اختياره لعنوان الكتاب أموج وأثباج نابع من البحث عن السلطة والسيطرة، فيقول في مقدمة كتابه: (ولما كانت كلمة أثباج تنبع في معناها من الموج، وهي أعاليه، على جانب معانيها الأخر، مثل تثبج الراعي العصا، أي وضعها على كتفيه وحمل ذراعيه عليها). أما أنا فأردد على مسامع المبدعين ما قاله الناقد الفرنسي بورجيه عام 1882 :) لا يتحكم النقاد بالإنتاج الأدبي أكثر مما يتحكم الفيزيائيون بإنتاجات الحياة). فهل من ضير عليَّ يا أبا مدين إذا قلت إن العلاقة بينك وبين النقد مبتورة؟ هل جنيت عليك؟.
ولا أظن أن القارئ يجهل المستوى الحقيقي لأبي مدين في هذا الزمن الراهن، فكل ما نقرأه من كتابات له إذا لم تكن في الصرف الصحي وأشباهه، فإنها تلخيص سيء لكتاب من الكتب، أو شتم مقذع يستحي المرء من ذكره، وهل كل من تهجى كتاباً أو كل من لخص كتاباً يصبح ناقداً؟!
وإني لأشفق عليك أيها الرجل، فلقد بلغتَ حَرْساً من عمرك، ونسأَ الله لك في أجلك، وكنت تستطيع أن تكون مثل بعض من وردت أسماؤهم في هذا المقال ممن جايلوك، فتترك ما يخلِّد اسمك في صحيفة بيضاء يقف أمامها أبناؤنا وأحفادنا في إجلال وإكبار، كما نقف نحن الآن أمام الرواد من أدبائنا، ومن بينهم شريكك في صحيفة الأضواء محمد سعيد الباعشن. ثم دع عنك الدندنة على تلك الشهادة المخرومة، فهل لديك شهادة حتى تكون مخرومة؟! وما وجدت أحداً يفاخر بالجهل مثل مفاخرتك، ولقد كان باستطاعتك أن تحصل على شهادة عالية، مثل من سبقوك، ولكن أين أنت مما قال شوقي:
وما استعصى على قوم منال
إذا الإقدام كان لهم ركابا
ودع عنك أيضاً - في كل مرة - ذكرَ طه حسين، وتوفيق الحكيم، وأن الاستطراد يطاردك (على حد قولك) نتيجة عدوى من طه حسين. أرجو أن لا تتاجر بأسماء هؤلاء الكبار، وتروّج لنفسك تحت ظلالهم الطويلة، وتتعلق بقاماتهم السامقة، وتتمسح بإرثهم، فلا شأن لك بهم. فطه حسين لو علم بذكرك له في كل مرة لتبرأ منك. طه حسين ليس مثلك أيها (الناقد الخدماتي) فصحيح أن معظم ما كتبه كان مقالات في الصحف، ولكنه كان يكتب عن الأغاني وعمر بن أبي ربيعة، وكافكا وأندريه جيد، وأدباء آخرين لم نسمع بهم، فكيف بك أنت. ولم يكتب طه حسين عن الحفريات التي لعلها كانت إلى جوار دارته الشهيرة (رامتان). فدعه فلا علاقة تربطك به.
ولا تعجب أيها القارئ الفطن، فأنا لم أتوصل إلى نتائج البحث إلا بعد قراءة عميقة، وتحليل إحصائي دقيق، وحينما ترى كتابي هذا مطبوعاً - إن شاء الله قريباً - ستدرك إلى أي مدى وفقت - بفضل الله - في استخدام الإحصاءات الرياضية والرسوم البيانية لإظهار النتائج المهمة في هذا البحث. وما كان يدفعني إلى الاجتهاد في إتمام البحث - رغم ما أقرأه في كتب أبي مدين من مثبطات - إلا ما أجده منثوراً في كتب النقد الأدبي من نماذج لدراسة الأدب الهابط، ولعلي - كي لا أطيل - سأكتفي بنص من كتاب النقد الأدبي لكارلوني وفيللو ورأيهما في أننا حينما نتعرض للدراسات النقدية (ندرس النقاد بفحص مضمون مؤلفاتهم ومدى دقة أحكامهم أو عمقها)، ومن يدرس نقد أبي مدين سيخرج بالتأكيد بنفس النتائج التي خرجت بها.
ولعلك لحظت - يا عزيزي القارئ - في الحلقات الثلاث الأول أن أسلوب أبي مدين، ولغته، وطريقته في الملاحظات لما تزل جميعها في مستوى منخفض، ولو من فائدة ظهرت على كتابته لما ظهر في مقاله في الحلقة الثالثة سلسلة من الإضافات المتتالية يلهث القارئ حتى يصل إلى فائدة الجملة، وذلك في قوله: (إنني لست حريصاً على متابعة جميع صفحات أطروحة صاحبنا). وهذا ما حذرنا منه أساتذتنا في درس التعبير، وكانوا يذكروننا ببيت ابن بابك الذي يستخدمه البلاغيون للدلالة على العيب الذي يلحق بالفصاحة، وهو أن يكون الاسم مضافاً إضافة متداخلة:
حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي
فأنت بمرأى من سعادَ ومسمع
ولم أعجب عزيزي القارئ من تركه الحديث عن بحثي في الحلقة الأولى من مقاله، ليقول إنني (أشير إلى خطأ ما زال يقع كل حين، وهو ما يسمى الدور الثاني، والصحيح أن يقال الدور الآخِر)، فأبو مدين لم يفرق بين اللغة الاصطلاحية المهنية واللغة في إطارها العام، وليس بعجيب ذلك الحرص منه، لأنه لم يعش أجواء الدراسة. وأنا بوصفي أحد الذين انتموا إلى الأسرة التعليمية أدرك أنه من الصعب أن يُستخدَم الدور الآخِر، لأن الصياغة هنا (سواء أكانت صواباً أم خطأً) صياغة مهنية، لها دلالة محددة. وإلا لأمكننا القول في الشهادة المتوسطة (شهادة الكفاية) لا (شهادة الكفاءة). وكم كنت أتمنى أن ينقل أبو مدين حديثه إلى التربية ويكثر من هذا الحديث بما فيه من صواب وخطأ، ليريحنا قليلاً من الحديث المستمر عن المطبات وأعمدة النور والشوارع والبلديات، وليريح البلديات ومؤسسات المياه أيضاً من متابعة كتاباته لينصرفوا إلى صيانة الشوارع التي تحدث عنها.
وقد أخطأ أبو مدين بحرصه على التعديل في الاصطلاحات فقد درجت العرب على الاستساغة لكلام أصحاب المهن والأعمال رغم مخالفة كثير منها القياس. وفي كتاب معلمنا الأول في (الإنشاء) أبي عثمان الجاحظ البيان والتبيين الكثير، ولعل في (باب أن يقول كل إنسان على قدر خلقه وطبعه) الكثير مما ينفع أبا مدين وينفعنا جميعاً. وأقرب مثال يصلح في هذا المقام ما أورده عن المسيح عليه السلام، حينما مرّ بحَلَق بني إسرائيل، فشتموه، فكلما قالوا شراً قال هو خيراً. ويذكر الجاحظ أن شَمعون الصّفّي قال له: (أكلما قالوا شراً قلت لهم خيراً؟ قال المسيح: كل امرئ يعطي مما عنده). وأبو مدين - أخي القارئ - حينما أراد أن يردّ عليَّ، أعطى مما عنده، فلم يجد سوى الشتائم، والسباب بطريقة أسماها الجاحظ كلام البلديين. ولم أعجب من شتائم أبي مدين لي، وأحمد الله أن الرافعي قد مات قبل أن يكتب أبو مدين عن كتابه (على السفود) ولو كان حياً لما أمكن التكهن بما سيناله من أبي مدين، لأنه يقول في كتاب (الصخر والأظافر) - والأفصح أن يقول (الأظفار) - رادّاً عليه آراءه في العقاد: (وأنت يا أستاذ يا رافعي: ما شأنك وانتقاد العقاد لهيكل؟ إلا أن الثاني (لاحظ أنه قال الثاني ولم يقل الآخَر) دكتور والأول لم ينل هذا الشرف والذي عرض عليه فرفضه. أم لأن الأول كاتب في صحيفة سيارة، والثاني (الثاني أيضاً) رئيس تحرير). (36) ويقول له في مكان آخر: (ولو كانت كتاباتك في العقاد موضوعية منطقية لما كان عليك مأخذ. ولكنك لا تستطيع أن تقف مع العقاد وجهاً لوجه، فجنحت إلى الشتايم والسباب). (37) وهذه اللغة هي التي أسماها الجاحظ (لغة البلديين). وإذا كان أبو مدين يلوم الرافعي على شتائمه وسبابه فلِم يرتضي ذلك لي؟ أم أنه كما تقول العرب: إن الموصين بنو سهوان. ولو أن أبا مدين اهتم بتحسين لغته قبل أن ينظر إلى كتب النقد لما بلغ هذا المبلغ من الركاكة بالمعاضلة في الكلام في كثير من كتاباته مثل قوله: (العقاد أكثر ميلاً إلى النزعة العلمية، وهو أدق في أسلوبه من الدكتور طه، بل هو اتخذ في أيامه الأخيرة العلم مادة له في موضوعاته المطالعات، وهو واسع الاطلاع). (أمواج وأثباج:109).
وما سقته من كتابات في (النقد!!) لأبي مدين نزر يسير من (النقد الخدماتي)، فمفرداته مفردات مكاتب الخدمات المنتشرة في البلد، يجنح باصطلاحاته إلى آفاق عالية من أفكار المعقبين، والمخلّصين الجمركيين، يقول في كتابه (أمواج وأثباج) عن أبيات للشاعر طاهر زمخشري -رحمه الله- (هذا البيت صدره أو كلمة (شتاتي) لا تفهم إلا عند عمال الفرضة في المناطق الجمركية ومستودعاتها) (141) ولأن أبا مدين كان من العاملين في الجمارك أفسد معنى الشاعر الذي يريد الوصول إليه بوصف حالة التشظي الداخلية والتيه بالشتات، فأضاف الشتات إلى ياء المتكلم لتعميق الشعور وإيغاله في صدر القارئ بأن النفس استحالت إلى أجزاء متفرقة.
لا أظن أن من يقرأ في كتب أبي مدين باحثاً عن معرفة، أو ذوق فني، أو ملمح بلاغي سيجده، بل سيجد شيئاً استحال على مُنظّري الأجناس الأدبية أن يجدوا له نوعاً أدبياً. فأبو مدين حينما تأتي الفكرة منقادة إليه تجرجر أذيالها، يقضي عليها بسوء فهمه، وفسولة رأيه، واستغلاق إدراكه، ففي بيت لشاعر النيل حافظ إبراهيم يقول فيه:
خمرة قيل إنهم عصروها
من خدود الملاح في يوم عرس
يعلق أبو مدين (وإن كان في فمك - أيها القارئ - شيء فاحذر أن تشرق به): (فما هي هذه الخمرة إذا لم تكن دماء تتقزز من ذكرها النفس) (أمواج وأثباج31). ولن أعلّق على هذا بسوى المثل العربي (إنك لتكثر الحز وتخطئ المفصل). الآفاق التي يكتب فيها أبو مدين بعيدة بعيدة كل البعد عن آفاق النقد الأدبي، ولو كان النقد الأدبي مجرد امتلاك الكتب وشتم مؤلفيها، أو مدحهم بطرق (خدماتية) لأخذنا شهاداتنا من وزارة التجارة، ووزارة العمل.
سبق أن ذكرت في بحثي الذي لم يعجب أبا مدين لأني كنت مخلصاً فيه، ومنهجياً، ذكرت أن أبا مدين صرف همه للنقد الخدماتي ليستطيع الولوج في المجتمع آنذاك، وكما تقول العرب (أين يضع المخنوق يده). أما طباعة بحثي على حسابه الشخصي فإنه لأمر يضرب في المستحيلات، ذلك أن أبا مدين لم يطبع كتبه على حسابه، فكيف بكتاب عثمان. ولعلي في المقالة القادمة أعرض - إن شاء الله - أموراً في غاية الأهمية.