لو قرأنا كل المسرحيات لكل المؤلفين لوجدنا أن مسرحيات شكسبير ومسرحيات تنسي وليامز هي أكثر المسرحيات محكمة للبناء وهي أيضا أكثر المسرحيات قوة في بناء الجملة الحوارية وفي اختيار المفردة. ونحن هنا لا نتحدث عن المفردة المترجمة للعربية أو إلى أية لغة غير الإنكليزية.
يعود السبب في ذلك إلى أن مسرحيات شكسبير طبعت بعد أن مثلت على المسرح إبان العصر الإليزابيثي وبشكل خاص بعد النجاح الذي حققه كممثل وكاتب فأصبح شريكا في مسرح Globe theatre. ونشرت مسرحياته التي كان يكتبها بعد تمثيلها، وكذا مسرحيات تنسي وليامز التي هي الأخرى طبعت بعد أن مثلت في ستوديو الممثل والتي كان إيليا كازان يقوم بإخراجها. من هنا تأتي أهمية هذه المسرحيات فالأداء المسرحي والتمرينات المسرحية وتحليل ما بين السطور وتحليل الشخصيات يكشف الخلل في البناء حيث يصبح مرئيا على المسرح وأداء الممثل يكشف الخلل في تركيبة الجملة وأيضا في اختيار المفردة اللغوية. فتجري أثناء عملية الإخراج تعديلات كثيرة على المسرحيات فتأتي محكمة البناء الدرامي وبناء الجملة وأناقة ودقة المفردة الحوارية. إضافة إلى ما بزغ فيه شكسبير كشاعر بعد أن نشر مطولته الشعرية عام 1592م فينوس وأدونيس. وتحتل مسرحيات شكسبير مكانة أكبر في إعادة الطباعة والنشر فتأتي مطبوعات جديدة ملحق بها أو بفصولها هوامش في التفسير. وترجمة هذه الأعمال إلى العربية تتفاوت في صياغة لغة الحوار في محاولة لإضفاء هيبة شكسبيرية في الصياغة عربيا.
آخر طبعة وآخر إصدار شكسبيري هو مسرحية مكبث من منشورات دار السياب في لندن التي دون الناشر على غلافها ترجمة (وتعليق) صلاح نيازي.
والأستاذ الشاعر صلاح نيازي ترجم أيضا مسرحية هاملت التي سبق وأن ترجمت مرات عديدة كان آخرها للكاتب والروائي الراحل جبرا إبراهيم جبرا.
ماذا أضاف الأستاذ صلاح نيازي في ترجمته للترجمات التي سبقته. إن ما يتسم به الأستاذ نيازي عن غيره هو شاعريته وتمكنه من لغتيه العربية والإنكليزية وحرصه وأمانته للنصوص التي يترجمها وكان ذلك واضحا ليس في مكبث فحسب بل في هاملت التي أحببتها كأفضل نص قرأته في لغته العربية، في بناء الجملة المسرحية وسلامتها وسلاستها للأداء وفي المفردة التي يختارها. والأستاذ نيازي في تعليقه على الترجمة ومناقشته للترجمات السابقة لأعمال شكسبير وضعنا في صورة دقيقة لطبيعة الترجمة وما يمكن أن تكون عليه وخاصة ترجمة أعمال شكسبير في نصوصها الإيحائية ورموزها ورموز شخصياتها التي ينبغي أن لا تنفصل عن طبيعة النص وتحليل المشهد والفصل والمونولوج أو الديالوج نفسه. ومما أورده في مقدمة مكبث عن الترجمات السابقة يمثل درسا أكاديميا عميقا وعادلا لمفهوم الترجمة ليس لأعمال شكسبير فحسب بل في ترجمة النصوص الأدبية بشكل عام وما يحق وما لا يحق للمترجم من مسافة الإضافة أو الحذف. فالجملة الشكسبيرية بشكل خاص وما تحتويه من إيحاءات تحتم التأني في اختيار المفردة. ففي مسرحية هاملت في المنولوج الشهير لهاملت (أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة) فإن علينا أن نقرأ المقطع كاملا وأن نبحث في معاناة هاملت حتى نستطيع اختيار المفردة. لقد ترجم المونولوج في الترجمات القديمة (نكون أو لا نكون) وهنا يمكن القول (الوجود أو العدم ذلك هو السؤال) وهو أدق فلسفيا من تعبير نكون أو لا نكون كترجمة حرفية للتعبير الإنكليزي. وهو ليس صحيحا لأن معاناة هاملت التي تجلت في ذلك المشهد ليست ذات بعد فلسفي يتعلق بالكينونة.
وجاء في ترجمة الأستاذ صلاح نيازي (أكون أم لا أكون. تلك هي المسألة) ذلك يعني (الحياة أو الموت تلك هي المسألة) ومما جاء في تهميش الأستاذ نيازي بصدد هذا المقطع إن هملت يعبر عن معاناة هاملت (هل من الضروري أن أقوم بما يجب علي أن أقوم به أو لا أقوم به وهذا يقترب من القول هل سأفقد حياتي أم لا ما دام الموت سيكون نتيجة كل عمل أقوم به). ولكن مونولوج هاملت في هذا المشهد في قراءتي له لا يعبر عن الوجود والكيونة (نكون أو لا نكون) ولا يعبر عن الحياة أو الموت في تنفيذ فعل الانتقام (أكون أم لا أكون) بل يعبر عن القلق والحيرة في كل معاناته في القصر وكل ما حصل فيه من تآمر يعكس رداءة النفس البشرية ووجوده ضمن هذا الواقع الملتبس فأرى أن يكون التعبير (تكون أو لا تكون ذلك هو السؤال) To be or not to be.. that is the question وفي الترجمة القول عربيا (أن ننام. أن نموت) كان ينبغي في تصوري القول (ننام.. نموت) فالآن لا ضرورة لها كما أن لقاء حرفين متشابهين في الجملة غير مرغوب فيه لأنه يثقل في القول والأداء (النون في أن والنون في ننام وكذلك النون في أن والنون في نموت).
إن الدقة الإيحائية في كتابات شكسبير ولغة الشعر والبلاغة كانت تقدم لجمهور مترف في الثقافة والتلقي. وتقديم ا لمسرحية أمام جمهور المسرح في العصر اليزابثي يعني ترفا أرستقراطيا وليس ثقافة شعبية سائدة. والمسرح في تصوري هكذا فإن فن المشاهدة والتلقي هو فن أرستقراطي ليس بالمفهوم الطبقي والاجتماعي للكلمة بل بالمفهوم الحسي والأناقي والمتعة المتألقة وتعبير الترف الأرستقراطي هو تعبير مجازي يعني أن الثقافة هي ثقافة النخبة وبشكل خاص ثقافة المسرح التي تختلف عن ثقافة السينما مثلا حيث هي فن لكافة المستويات الاجتماعية والثقافية. ولقد عني شكسبير أصلا بحياة الطبقة الأرستقراطية والطبقات الحاكمة في أغلب مسرحياته التي وجد في صراعاتها كنزا دراميا في تحليل الشخصيات وتجسيد معاناتها وأجواء القصور الملكية وديكوراتها.. كلها تعطي هيبة للمسرح والمشاهدة.
لقد أنتجت السينما حوالي ثلاثمائة فيلم مأخوذ عن أعمال شكسبير. ومثلما كانت السينما البريطانية وفية لشكسبير فإن السينما الروسية تفوقت عليها في الوفاء، في إبداع الوفاء والدقة في الأداء والقيمة الفنية (الملك لير، هاملت، باليه روميو وجوليت سينمائيا) هذا إضافة إلى تقديم أعمال شكسبير على المسارح الروسية.
وفي ترجمة نص مكبث المسرحي للأستاذ صلاح نيازي يتضح الجهد والحرص والأناقة في اختيار المفردة. هناك بلاغة في الحوار عربيا ما يقترب ما أمكن من الإيقاع الشعري النثري للغة مسرحية مكبث فأجد على سبيل المثال: بانكو يقول للملك كين - إذا اشتد عودي فحصادي حصادك.
شكسبير في كل أعماله يستعمل استعارات كثيرة وقسم من هذه الاستعارات هي ما يشبه الأمثال المتداولة أو هي أصبحت من خلال شكسبير أقوالا متداولة. إن بانكو في هذا الحوار عوده مشتد وهو قائد وسياسي فلماذا يقول للملك إذا اشتد عودي؟ هي بحاجة إلى تفسير والتفسير هنا إدائي ولا يمكن أن يكون حواريا من خلال الترجمة، بمعنى هذه مهمة المخرج والممثل أن يؤديانها بحيث يفهم مغزاها من خلال بناء المشهد وبناء الشخصية. فبانكو هنا يريد أن يتزلف للملك ويقول له لو أخذت مكانتي في هرم السلطة Grow اشتد عودي أي كما تنمو الشجرة وتنضج فإن ما أجنيه من حصاد سيكون في خدمة الملك. هنا تكمن البلاغة وهنا دقة ترجمتها في مكبث صلاح نيازي (إذا اشتد عودي فحصادي حصادك).
في جانب آخر إن ثمة مفردات، المسرحية محكومة بها في نقلها للعربية. ومن المفردات العربية الثقيلة اللفظ هي كلمات نون النسوة. نقرأ في الفصل الخامس من مسرحية مكبث وهو مشهد للساحرات الثلاث (يستعملكن لأغراضه الشخصية وليس حبا بكن فلتدفعن جزءَ مما سببتن من أضرار (و).. هيئن أوانيكن ورقاكن وتعاويذكن وكل شيء لازم) مثل هذا الحوار غير سلس في اللغة العربية وثقيل اللفظ وأكثر ثقلا في الأداء ومربك وبحاجة إلى حلول في صياغة الحوار ويمكن أن تقول الساحرة (لنهيئ الأواني والتعاويذ وكل شيء لازم) وبهذا يمكن التخلص من ثقل نون النسوة. بالتأكيد ليس مطلوبا من المترجم أن يقرأ ستانسلافسكي ليفهم حرفة المسرح لكي يتألق بقوة الترجمة في حسابات التمثيل، لكنني كممثل ومخرج شعرت في قراءتي لمكبث ومن قبلها هاملت التي ترجمهما الأستاذ الشاعر صلاح نيازي، شعرت بمتعة أدبية لأول مرة بمذاق شكسبيري عربيا وتمنيت لو عاد بي الزمن إلى الوراء في وطن عراقي غير هذا لتمتعت بإخراج هذين النصين.
سألت ألأستاذ صلاح نيازي لماذا لم تتصرف بنون النسوة لتخلصنا من ثقل اللفظ والأداء كلما اجتمعت الساحرات في المسرحية قال أنا ترجمت النص من الإنكليزية إلى العربية وعليكم ترجمته من اللغة العربية إلى اللغة المسرحية!
أستاذ مساعد.. متخصصة في الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة - قسم اللغة العربية - كلية التربية - جامعة الرياض للبنات.
هولندا
sununu@ziggo.nl