ما زلتُ أنهجُ مِن مُراكضتي وراءكِ
قبلَ ألفٍ مِن سنينْ!
ما زال يكتنفُ الوجودَ بخافقي
صوتُ المسافةِ في الأنينْ!
فمتى تُرايَ سأستريحُ بحاضري
مِن كلّ ماضيكِ الحزينْ؟!
في ذلك الماضي، الذي نصفه ب(الجاهلي)- ويخيّل إلينا أن صفة (الجاهليّة) فيه مرادفة لصفة (الجهل) و(التخلّف)- نقف على أطلال شعرٍ لا يستقيم حضوره مع غياب المعرفة والفكر والخيال والإبداع عن أهله، بحال من الأحوال.
نعم، لقد كانت خياليّة الشاعر القديم، حتى في العصر الجاهلي، أرقى وأعمق بكثير من خياليّة الشاعر العاميّ في العصور المتأخّرة، الذي نزعم أنه الوريث الشرعي لذلك التراث وابن بيئته نفسها. كما كان الشاعر إذ ذاك أبعد غورًا في التصوّر النقديّ لطبيعة الشِّعر ووظيفته الفنّيّة والوجوديّة. وأنّى لشاعرٍ عامّي أن يأتي للمزايدة على ذلك الشِّعر؟! إنه إذ يفعل ذلك إنما يُخبِر عن جهله المركّب، بالشِّعر وبالتراث.
وليس السبب في ذلك أن حياة العرب القديمة- اجتماعيًّا وحضاريًّا- كانت أرقى من حياة المجتمعات العاميّة في القرون المتأخرة فحسب، ولكنّ ذلك كذلك لأسبابٍ لغويّة. والتلازم بين اللغة والمستوى الحضريّ أمر بدهي. آية ذلك أن اللغة العربيّة التي أنزل بها القرآن الكريم كانت قد بلغت في نموذجيّتها- التي اختارها الله لكتابه- ذروة عظمتها التعبيريّة، البالغة حدّ الإعجاز البلاغيّ، ولهذا- بلا ريب- تأثيره في فكر الإنسان، ونظامه العقليّ والروحيّ والحياتيّ.
لن تكون لغةٌ كتلك التي صيغ فيها الشِّعر الجاهليّ إذن لرعاع من البشر، لم يبلغوًا شأوًا راقيًا جدًّا في فكرهم وذوقهم وأدبهم. وإذا لم نتّخذ مقياس الماديّات، ولا العمران، مقياسًا، أمكن القول: إن بداوة العصر الجاهلي كانت أرقى- بما لا يُقاس- من بداوات العصور المتأخّرة، فنًّا وخيالاً وتعبيرًا، وربما مجتمعًا. وليست العبرة في هذا بالجانب العقدي كذلك؛ فالإغريق- على سبيل المثال- كانوا أمّة أسطوريّة وثنيّة، تؤمن بتعدّد الآلهة، لكنهم كانوا في الوقت نفسه ذوي فلسفة، وفنون، ومسارح، وملاحم، ظلّ العالمُ عليهم فيها عالةً إلى اليوم. وإلى جانب شِعرالعرب وأدبهم- فضلاً عن آثارهم التي عُثر عليها مؤخّرًا في الجزيرة العربيّة، ولاسيما في الفاو- فإنه يدلّ على رقيّ العرب الموصوفين بالجاهليّين (عقيدة واجتماعًا) وأنهم لم يكونوا كما نتصوّرهم عادة متخلّفين كعرب الصحراء في القرون المتأخرة، ذلك الفِكر الذي سجّل القرآن الكريم أنهم كانوا يجادلون من خلاله النبيّ والذين آمنوا، ويقاومون الدِّين الجديد برمّته. وهو ما استدعى أسلوب الحوار الاستدلاليّ أسلوبًا في مواجهتهم، واستراتيجيّة الجدال المنطقي؛ لإقناع أولئك القوم (اللُّدّ)، كما يصفهم القرآن.
ثم انحدر الإنسان العربيّ في العصور اللاحقة، وانعزلت جزيرة العرب عن ركب العالم- بما في ذلك العالم الإسلامي- وظلّت في تقهقرها، وإلى وقتٍ قريب، أي إلى توحيد كيانها الأكبر: (المملكة العربيّة السعوديّة). كما أن العرب في كثير من الدول المتعاقبة والدويلات قد هُمّشوا في معترك السياسة والاقتصاد وواجهات الإعلام، وقُرّب سواهم من غير العرب، الآتين بلغاتهم الأصليّة، أو بعربيّة مختلطة، أو عربيّة مكتسبة. وتقامأت لغة الشعب العربيّ شيئًا فشيئًا في محكيّات دارجة محليّة، منغلقة على نفسها، لا تُعبّر إلاّ عن حاجة الإنسان اليوميّة وضروراته البدائيّة. وما تحوُّل اللغة في أيِّ مجتمعٍ إلاّ مؤشّرُ التحوّلات كافّة في حياة الإنسان.
أفيأتي شاعر ورث تلك اللغة المنطويّة على واقعها، في محليّاتها العقيمة، المتواضعة نسجًا ومحتوى وقِيَمًا، ليناطح التراث العربي، بدعوى أنه سيضيف بعامّيّته إليه ما لم يستطعه الأوائل؟! «لقد هزُلت وبان هزالها!».. أو على حدّ قول (ابن الوردي، -749هـ):
قفا نبكِ مِنْ ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
لقد هزُلَتْ حتى بدا مِن هزالِها !
ولذا، لا غرابة أن نجد شعراء العاميّة الأوّلين كانوا يتكئون على الشِّعر الفصيح فيما ينظمون، إلى درجة الأخذ المباشر أحيانًا، أو السرقة الفنّيّة. ويحضر في
هذا السياق- على سبيل المثال لا الحصر- الشاعر المعروف (ابن لعبون). الذي، لمّا انتُقد على بيته:
وَاقْفى مصرٍّ كنّْ جَاكاتْ شَالِهْ
جلمودْ صخرٍ حطَّهَ السيلْ من عَالْ
واعتُرض عليه بأن التشبيه مأخوذ عن (امرئ القيس)، قال: «إن امرأ القيس أخطأ بقوله: مكرّ مفرّ مُقْبِل مُدبر معًا... وجلمود الصخر من علٍ لا يكرّ ولا يُدبر بل هو مسرع في الهرب!» وأردف مؤلّف كتاب «الأزهار النادية»، الذي أورد الخبر: «ولا يخلو قوله من الصواب!»(1) وعلى طرافة قول ابن لعبون هذا فإنه لم يَبْدُ فيه مستوعبًا لصورة امرئ القيس أصلاً، وإن اقتبس لفظيًّا طَرَفًا منها، وفهِمها فهمًا ظاهريًّا، واستعملها في بيته. بل إنه قد قَلَب الرؤية إلى لوحة امرئ القيس، ربما عن قصد، كي يتخلّص من المأخذ عليه، وإلاّ فإن امرأ القيس لم يَقُل: إن جلمود الصخر يكرّ أو يفرّ أو يُقبل أو يُدبر، وإنما صوّر الحِصان بلغة شعريّة أشبه ما تكون بالرسم السورياليّ، أو قل: صوّره في لوحة أسطوريّة. وذلك ما خلق جماليّة صورته، التي تلبّث عندها النقّاد، وإلاّ فهل عاقل لا يدرك ما أدركه ابن لعبون من أن جلمود الصخر لا يكرّ ولا يُدبر! إنها صورة يمكن أن تُقرأ قراءتين:
1) «مكرّ مفرّ مُقْبِل مُدبر (معًا)»، وهو في كلّ هذه الحالات كأنه يتحرّك حركة اندفاعيّة واحدة،
«كجلمود صخر حطّه السيلُ من علِ».
2) مكرّ كجلمود صخر حطّه السيل من علِ + مفرّ كجلمود صخر حطّه السيل من علِ + مُقْبِل كجلمود صخر حطّه السيل من علِ + مُدبر كجلمود صخر حطّه السيل من علِِ.
لذا جاء في تحليل هذه الصورة في كتابي «مفاتيح القصيدة الجاهليّة»(2): إنها «تُلحظ آثار المناخ الأسطوري في عددٍ من الأوصاف التي يضفيها الشاعر على فرسه. فهو: مُنجرد. وصفة الانجراد هنا ليست بصفةٍ شكليّة، أي أن شَعره خفيف كما يرد في شروح اللغويّين، فقط، ولكن المعنى يتجاوز هذا إلى أن الفَرَس منطلق لا يقرّ، ومُجرّد، لا تكاد تحيط بمعانيه صفاته... ولذا ففَرَس امرئ القيس مِطْواع للفعل فاعل بنفسه في آن: «مِكَرّ مِفَرّ.. مُقْبِل مُدبِر معًا.. كجلمود صخر حطّه السيل من عَلِ»، في تزامنٍ حركيّ متضادّ، مستحيل، لحيوان خرافيّ، فوق الزمن والواقع. وتلك صورة تعلّق بها نمط فَرَس الشاعر، حيث تتكرّر لديه، مطابَقةً على إحدى الراوايات، أو مع بعض اختلاف، كقوله:
- مكرّ مفرّ مُقْبِل مُدبر معًا
كتيس ظباء الحُلّب العَدوانِ.
- مِخَشّ مِجَشّ مُقْبِل مُدبر معًا
كتيس ظباء الحُلّب العَدوانِ.
وهذا معنى القول بأنه لا جديد يُرجى في الشِّعر العاميّ يُضاف إلى الشِّعر العربي. بل إن في الشِّعر العامّي تضحيلاً للشِّعر العربي، وانتهاكًا لجماليّاته، وآفاقه التخييليّة، والشاعر العامّيّ- حتى حين يحاول اقتباس الشِّعر العربي- ما يلبث أن يُحيل إشراقة الصورة، وتحليق المعنى، وتجريديّة الدلالة، إلى المباشرة، وبساطة المدركات اليوميّة، التي يمتح منها، ويستقي منها جماهير شعره، وتتناسب مع مستوى تخاطبهم الحسّيّ القريب. ولا غرو، فلكلّ مقامٍ مقال، ولكل جمهورٍ قصيدة! (وللحديث صلة).
1- انظر: (د.ت)، كمال، محمد سعيد، الأزهار النادية من أشعار البادية، (الطائف: مكتبة المعارف)، 10: 27.
2- (جُدّة: النادي الأدبي الثقافي، 2001)، 171، 174.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net