شعرية الأحجية تكمن في التكوثر الدلالي.. في ولادات المعاني والاتجاهات والمشاكسة.. في اللعب والغموض والمرح والإرجاء... الأحجية ازدواجات متناغمة ومتواطئة مع ذاتها.. الأحجية استدارة.. يقينٌ بالباب السريّ.. بالطاقة الكامنة والقوة المولِّدة.. الأحجية تعي نفسها على هذا النحو.. ولذلك كثيراً ما ارتبطت في السرديات الشعبية بالمرأة ونباهتها في حل شفرتها. لنقف مثلاً عند هذه القصة التي يسوقها ابن الأثير في (المثل السائر)، والتي حاولت من خلالها السرديات العربية تفسير المثل الشهير (وافق شن طبقة): (يروى عن شن بن أقصى، وكان ألزم نفسه ألا يتزوج إلا امرأة تلائمه، فصاحَبَه رجل في بعض أسفاره، فلما أخذ منهما السير قال له شن: أتحملني أم أحملك؟ فقال له الرجل: يا جاهل، هل يحمل الراكب راكباً؟ فأمسك عنه، وسارا حتى أتيا على زرع، فقال شن: أترى هذا الزرع قد أكل؟ فقال له: يا جاهل، أما تراه في سنبله؟ فأمسك عنه، ثم سارا، فاستقبلتهما جنازة، فقال شن: أترى صاحبها حياً؟ فقال له الرجل: ما رأيت أجهل منك أتراهم حملوا إلى القبر حياً؟ ثم إنهما وصلا إلى قرية الرجل، فسار إلى بيته، وكانت له بنت، فأخذ يطرفها بحديث رفيقه، فقالت: ما نطق إلا بالصواب، ولا استفهم إلا عما يستفهم عن مثله، أما قوله:) أتحملني أم أحملك) فإنه أراد أتحدثني أم أحدثك حتى نقطع الطريق بالحديث، وأما قوله (أترى هذا الزرع قد أُكل) فإنه أراد هل استسلف ربه ثمنه أم لا، وأما استفهامه عن صاحب الجنازة فإنه أراد هل خلف له عقباً يحيا بذكره أم لا. فلما سمع كلام ابنته خرج إلى شن وحدثه بتأويلها فخطبها فزوجه إياها).
شرط الملاءمة هنا هو المعرفة العميقة.. امتلاك قدرة التأويل.. عبور تحديات الأحجية التي تتجاوز سطح الكلام والمعرفة المتداولة. النص يسخر سخرية مضاعفة من جهل صاحب شن. جهله عندما يكون هو الذي يقوم بنعت شن في كل سؤال بقوله (يا جاهل!!) مع أن (شن) هو العارف الحق بأن الحديث/ اللغة هي التي تحملنا في رحلة الحياة، وبأن الحاضر (الزرع) يشكله الماضي (استسلاف الثمن)، وبأن خصوبة الحياة (الولد) هي وسيلة الانتصار على الموت. ثم جهله عندما يجعل ابنته هي التي تعرف.. ومن ثم كان حل الأحجية هو طقس العبور إلى خصوبة المعرفة، وإلى خصوبة الحياة الماثلة في رمزية الزواج.
يلوح لي أن في الأحجية استعادة دائمة لقصة بدء الخليقة؛ حيث يهيئنا (الشواش) و(العماء) البادي على صفحتها إلى الحلم بانبثاق الانتظام عندما ينفتح أمامنا الباب إلى الحل؛ أي إلى وجود المعنى!! وبوجوده نصنع - أو ندرك أو نعيش- وجودنا. ولأننا متعلقون دائماً بشغف البدايات.. بالشواش الدافئ الحنون في حضن الأم الذي كنا نعيشه عيشاً ولا نتعقله فإننا نلوذ بشواش الأحجية.. بحضنها المحتجب.. ندس فيه رؤوسنا وقلوبنا ونستدر منه جواباً لكي نفهم: لماذا هو قارٌّ في أعماقنا بكل هذا الحنين الجارف إليه؟!
تتجدد الأحاجي آلاف المرات.. ومع تجددها تظل صيرورة الحنين إلى الأحجية الأولى التي جعلتنا نتنفس العالم!! لذلك يبدو الحب الحقيقي دائماً أحجية.. كل معشوق أحجية؛ لأنه يوقظ في لاوعي الآخر الشواش المنفتح على كل جهات الاحتمال اللانهائي للتشكل. كل قصة عشق هي قصة خلق!! هي أحجية مسار المتعدد، ومصير المختلف، إلى انسجام الواحد والوحدة: الليل والنهار يشكلان الزمن.. تماماً كما تشكلت وحدة العالم البدئي من تيامات وأبسو، وكما تشكلت الدائرة التاوية من الين واليانج.
عندما ننفذ إلى حل أحجية يزداد حبورنا بها أكثر؛ لأننا نشعر آنذاك بأننا دخلنا إلى بيتها.. أننا أصبحنا أليفِين! ولأن المعشوق في لاوعينا استعادة لأنطولوجيا الشواش الأول فإنه يظل في هذا اللاوعي العميقِ الواحدَ المبدِعَ للانهائية الأحاجي: نمضي إليه بشغف فنكتشف أن وراء كل باب باباً.. وداخل كل صندوق صندوقاً.. وتحت كل ثنية لغزاً. الأساطير والحكايات والآداب كثيراً ما راودت هذه اللانهائية إما في طلاسم الكهنة، أو دهاليز القصور، أو معارج الصوفية، أو فنون القول البلاغي: التورية والتعريض والكناية والرمز والمعمَّى واللغز، وصولاً إلى السرديات البوليسية، وإلى ما يسمى بالروايات التفاعلية Interactive Fiction الإليكترونية.
غير أن أشد ما في الأحجية من صدق لا يُصّدَّق هو قربها الشديد.. وتحققها الملموس: الحل في الأحجية مغروس في جسد عبارتها.. إنه ينبض بالحياة ويومئ ويغمز!! ومع ذلك فهو خفي وكامن.. الأحجية هي كمال هذا الازدواج بين الخفاء والتجلي.. وشعريتها قائمة على انسجام الأضداد!!
- الرياض
muhassebe@hotmail.com