في الفصل السادس من الكتاب حاول (المؤلف) أن يخرج من شرنقة اقتباساته، بيد إنه وعند أول لبنة وضعها للنهوض بهذا الفصل، تعثر وسقط في مأزق لغوي، سرعان ما أحال عنوان الفصل إلى مشكل معرفي، فبدلا من أن يقول: (العبودي واهتماماته العلمية)كما ينبغي للعنوان أن يكون، انقلبت عليه مفرداته فكتب: ((علوم العبودي واهتماماته)) وهو خطأ محض، لأن العلوم تنسب إلى أجناسها لا إلى علمائها، ومن هنا يقال: علوم الشريعة، وعلوم العربية، وعلوم الطبيعة... وهكذا، دون أن تنسب إلى أشخاص بعينهم مهما كانوا، وعليه فلا يقال: علوم البخاري، ولا علوم الأصفهاني، وبالطبع ولا علوم العبودي!
ليس هذا فحسب بل إن الذين وضعوا علوما نسبت إليهم ريادة وضعها كالخليل بن أحمد، وأبو الأسود الدؤلي وغيرهما، لم تنسب إليهم العلوم التي وضعوها، وإنما يقال علم العروض، وفي سياق مناسبة عزوه يقال: لواضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكذا يقال علم النحو، ولا يقال علم أبي الأسود الدؤلي.
وفي حديثه عن (العبودي الداعية) لا ينسى الكاتب أن يذكر مؤلفات العبودي في الدعوة، وفي وصفه لأحدها، وتحديدا (الخبر والعيان) يمسك عن الكلام كعادته، ويفسح للعبو دي ليتحدث عن تجاربه الدعوية في نحو ثلاث صفحات.
أما حديثه عن: (العبودي المؤرخ) في المبحث الثاني من هذا الفصل، فتكرار وإعادة لما سبق أن ذكره في الفصل الخامس، لدى حديثه عن العبودي الجغرافي، خلافا لحديثه اللاحق عن: (العبودي النسابة)، ففي هذا المبحث برزت شخصيته من خلال وصفه لمنهج العبودي وعنايته بدراسة الأنساب.
في المبحث الرابع يتحدث الكاتب عن: (العبودي القاص والروائي) حديث العالم العارف بما يتحدث عنه، وهو في الحقيقة لا يعرف إلا النزر اليسير من عوالم القص والرواية، فهل كان العبودي قاصا وروائيا؟
ف(المستدين) وهو أحد النصوص القصصية، يصفه الكاتب بأنه قصة اجتماعية واقعية، وهذا يؤكد ما أسلفنا تفنيده، لأن من أبجديات الفن القصصي والروائي أنه وصف للمتخيل وإن خالطه واقع، ولكنه لا يوصف بالواقعية المحضة، ولا يزعم له ذلك إلا إذا كان سيرة ذاتية، وبهذه العبارة يوصف ذلك النوع من السير فيقال: سيرة ذاتية روائية، لما كان أصله سردا واقعيا، أما غير ذلك فلا .
والفرق بين القصة والرواية من ناحية، والسيرة الروائية وما في حكمها من ناحية أخرى، هو ذات الفرق بين التخيلي والواقعي، التخيلي نسيج متجانس من الواقع والخيال، وليس بالضرورة أن يكون بينهما وحدة زمانية ومكانية متراتبة، أما الواقعي فعلى العكس من ذلك، دون أن يشترط فيه التراتب الطردي، التخيلي ليس بالضرورة أن يحكي واقعا معاشا، أما الواقعي فيحكيه، لأنه جزء من الحياة والمجتمع والناس، ومن ثم فهو صورة منهم وإليهم، ووثيقة للعلم والتأريخ إذا تجاوزها المؤرخون - يوما - وما أكثر ما يفعلون، في التخيلي يكتب الروائيون على أغلفة رواياتهم: أي تشابه بين شخصيات هذه الرواية وأخرى موجودة في الواقع هو تشابه غير مقصود. ومثل هذه العبارة لا تكتب على السير الروائية الذاتية، والغرض من هذا التنبيه هو سلامة العمل وكاتبه من أية ملاحقة قانونية، قد يدعيها شبيه أو نظير لبعض شخصيات العمل الروائي، الذي قد يتهم كاتبه بالترصد وقصد الإساءة إليه والتشهير به.
في المبحث الخامس يتحدث (المؤلف) عن: (العبودي اللغوي والأديب والشاعر) وهنا يصر على حشره في زمرة الشعراء، رغم أن العبودي لم يدع هذه الصفة لنفسه، ولم يتمجد بها يوما، ولم يعد نفسه من أهلها، وإن لهج لسانه ببعض الشعر أو النظم حتى نكون أكثر دقة، والغريب أن المشوح يذكر أن شعر العبودي ضعيف، والعبودي ذاته لم يتردد في تسمية ديوان له أعده للطبع ب:(ديوان غير شاعر)، وللبرهنة على ما يثبته وينفيه يورد المشوح، قصيدة للعبودي ضعيفة وطويلة، وهي أقرب إلى النظم منها إلى الشعر، وقد أحلها ست صفحات من كتابه، الذي تضخم وتضخم حتى بات يحتاج إلى رجيم قاس ليعود إلى حجمه الطبيعي .
وإذا كنا ننازع الكاتب في شاعرية العبودي من حيث الاستحقاق وعدمه، فلسنا ننازعه في وصفه له باللغوي والأديب، ولسنا نغض من قدره حين ننفي عنه القدرة على كتابة القصة والرواية، وقد كتبهما من هم دونه علما و معرفة، ولكن الرجل لم يعن بكتابتهما، ولو أرعاهما اهتمامه لربما كتب الفائق منهما، كما إن عدم كتابته لهما لا تنقص من مكانته العلمية، ليتكلف له الكاتب هذه الصفة.
وداهية الدواهي تفسيره للقب (عميد الرحالين) وهو اللقب الذي استحقه العبودي بجدارة يغبط عليها، والذي أفهمه حيال هذا اللقب، وأحسب أن كل منصف يوافقني عليه، هو أن العبودي عميد معاصريه من الرحالين المعروفين، أي الذين توافرت لهم ذات الفرص التي توافرت له، وأعني بذلك من تقدمه منهم أو لحق به، ممن تهيأت لهم وسائل النقل الحديثة كما تهيأت له، وكذا آلات التصوير والتسجيل والكتابة، وسائر ما يحتاجه المسافر في العصر الحديث، أما الرحالون القدامى فليس للعبودي عليهم عمادة ولا ريادة، لأنهم بكل بساطة هم رواد من جاء بعدهم، والعرب تقول (الفضل للمبتدي وإن أحسن المقتدي) هذه واحدة.
والثانية لأن من الإجحاف أن نقارن بين رحلة ابن بطوطة الذي خرج من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وهو يمشي على قدميه - مجتازا قارات العالم القديم - يركب دابته حينا ويمشي حينا، ومن جاء بعده من رحالة العصر الحديث، الذين يركبون الطائرات والسيارات والقطارات والسفن الحديثة، والفوارق الزمنية والحضارية بينهما كثيرة جدا، لا يتسع المقام لذكرها ولا لعقد المقارنات بينها.
في مبحث: (العبودي في عيون الباحثين)، أي أولئك الذين سلخ بحوثهم ومقالاتهم من مظانها ونقلها إلى كتابه، لتنداح في (55) صفحة من صفحاته، كان الفصل السابع بمباحثه السبعة، مسرحا لأكبر عمليات السلخ التي شهدها الكتاب وأثقل متنه بها، ولكونه مولع بالتكرار والإطالة فقد كان يأتي بالمادة المسلوخة كاملة لا يخرم منها حرفا، فيلقي بها في كتابه راضيا مطمئنا،كما في سلخه لكامل الحفل الخطابي لتكريم إثنينية خوجة للعبودي، التي نقل كل ما جاء فيها دون حذف، ومجموع الصفحات المسلوخة من هذا الفصل 172ص، تبدأ من ص319 وتنتهي في ص491، يتخللها حفلات التكريم التي حظي بها العبودي من لدن: إثنينية خوجة، فالنادي الأدبي في القصيم، فثلوثية المشوح، ومن ثم الهدايا والدروع المقدمة له، فقصائد الشعراء في مدحه، فحصر ببليوجرافي بمؤلفاته من إعداد أمين سيدو، ومن ثم ملحق الصور والوثائق، ومعظمها من أرشيف العبودي، عدا التي التقطت له في ثلوثية المشوح، وخلاف ذلك فليس للمشوح منها شيء إلا الجمع والإعداد اللذان استنكف عن الاتصاف بهما، مؤثرا التمجد بكلمة تأليف، والتباهي بمدلولها الصاخب المعرق، حتى استطال الكتاب، وتضخمت فصوله، ولو حسبنا عدد منقولاته، ومعها مسلوخاته، بلغة الأرقام، لذهبت بنصف الكتاب، ولتركت له نصفه والنصف كثير.
نظام حماية حقوق المؤلف في المملكة العربية السعودية، الصادر في 19-5-1410هـ، وهو ما كان يتعين على (المؤلف) معرفته، ينص في الفقرة الأولى من المادة السابعة على إن الاستشهاد بفقرات من مصنفات الغير مشروط بكونه: ((متمشيا مع العرف، وأن يكون الاستشهاد بالقدر الذي يبرره الهدف المنشود، وأن يذكر المصدر واسم المؤلف في المصنف الذي يرد فيه الاستشهاد)). والمشوح يذكر مصادره وأسماء مؤلفيها، ولكن استشهاداته لا تتماشى مع العرف، وليست بالقدر الذي يبرره هدفه من الاستشهاد، لأن اقتباساته من فئة (الهايبر) اقتباس، أي أخذ الجمل بما حمل!
والدكتور محمد فريد عزت الذي درس هذا النظام وفق ضوابط الشريعة الإسلامية، حدد القدر المعقول من النقل والاقتباس المفترض، كما تحدث عما نحن بصدده فقرر إنه: (يجوز نقل فقرات أو نبذ من مصنف إلى مصنف آخر، لتوضيح فكرة، أو إضفاء مزيد من القوة عليها) وبالطبع فجواز نقل فقرات أو نبذ لا يجيز نقل صفحات أو مقالات أو بحوث بأكملها. ودليل ذلك أن تتمة المادة السابقة نصت على أن ما سلف في أولها ينطبق على: ((الفقرات المنقولة من المقالات الصحفية والدوريات التي تظهر على شكل خلاصات صحفية)). والمشوح عفا الله عنه لم يكن يتعامل مع منقولاته بأسلوب الاستشهادات أو الخلاصات بل يجرفها إلى كتابه جرفا، وغنائمه نصوص مطولة، ومقالات محبرة، وبحوث محككة!
وبعد ذلك يقرر الدكتور محمد عزت حكما شرعيا في هذه المسألة فيقول: ((لا يجوز انتحال الكتاب جملة أو فصلاً من فصوله لينسبها المنتحل لنفسه، لأن هذا اغتيال لحق المؤلف وعدوان على جهده، كالاعتداء على عين من أمواله سواء بسواء، وهو محرم بالنص)). ثم يستدل على رأيه هذا بآية وحديث!
والمشوح فارس من فرسان هذا المضمار لاسيما الاقتباس بالجملة، وكتابه خير شاهد على هذا، فالثماني صفحات التي سلخها عن الأستاذ محمد المجذوب وأودعها كتابه، هي في الأصل فصل من كتاب: (علماء ومفكرون عرفتهم)، الذي ألفه المجذوب في تراجم عدد من أعلام عصره، وكذا الصفحات العشر التي أخذها عن عبدالله حامد وأودعها كتابه.
انتهت