طلِّع دفتر التعبير .. واكتب العنوان .. (موضوع حر) .. اختر أي موضوع واكتب عنه .. بسرعة يا ولد انت وياه .. ما أبي أي ازعاج مفهوووم؟ يا الله ابدأ..
بهذه الجملة .. بدأ الأستاذ أحمد مدرس اللغة العربية حديثه مع تلاميذه في في المدرسة المتوسطة التي يعمل بها..
يتأفف فواز ذلك التلميذ المجتهد في الفصل ويقول (يا أستاذ .. ملينا من المواضيع الحرة .. حدد لنا موضوع نكتب عنه)!!
بتعجّب شديد وتهكُّم واضح .. يردّ عليه الأستاذ أحمد .. (مليتو من المواضيع الحرة؟ وهل هناك أجمل من الحرية؟ حرية الرأي .. حرية الفكر .. حرية الكلمة .. حرية المأكل .. والمشرب .. والملبس..
و..
و..
و..
الحرية مطلب إنساني عظيم..!
وها أنذا أهديها لكم على طبق من ذهب .. اكتب بسرعة ولا تضيع الوقت..!
في صباح الغد .. يبدأ أحمد بتصحيح الدفاتر.. وكالعادة تكررت الموضوعات ما بين (حب الوطن) و(فضل الوالدين) و(الصلاة) و(أمنياتي في المستقبل)..
عنوان واحد فقط كسر القاعدة!!
عنوان واحد فقط لفت انتباهه..!
(العنصرية)!!
يا له من عنوان مثير!
يا الهي .. كيف لطفل في الصف الأول متوسط أن يكتب عن موضوع كهذا؟ وعن أي عنصرية سيتحدث؟
بلهفة شديدة .. بدأ أحمد بقراءة الموضوع
(العنصرية)
(يعاني المجتمع من داء خبيث اسمه العنصرية .. ونسينا أنّ ديننا الحنيف نبذ التعصب بكافة أشكاله .. فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلاّ بالتقوى .. فقد قال سبحانه ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ?، ولم يقل جل علاه أكثركم مالاً أو أبيضكم بشرة .. لقد انجرفنا وللأسف نحو تيار التعصب وقسمنا المجتمع لفئات وألوان ومناطق .. فهذا بدوي وذاك حضري .. هذا أبيض وذاك أسود .. هناك تعصب واضح للون وللقبيلة والمنطقة .. فلماذا لا نقف جميعاً ضد هذا التيار العفن .. ونكون يداً واحدة .. ومجتمعاً واحداً .. يسودنا الحب والسلام بلا تفرقة ولا عنصرية ..)
(كتبه - فارس فرج)
دهشت مما قرأت .. وانتابني شعور غريب لا أعرف كنهه .. كل الذي أعرفه .. أنني أمام حروف صادقة كتبتها عاطفة جياشة .. كلمات خرجت من رحم الحقيقة .. الحقيقة التي نهرب منها رغم وجودها بيننا .. فرصدت له الدرجة كاملة .. مذيّلة بعبارة موضوع رائع .. أشكرك .. نسيت أن أقول لكم إنّ فارس هذا طفل مجتهد .. أسمر البشرة .. يتمتع بذكاء حاد .. وأفق متسع .. وموهبة لغوية فذة..
في صباح الغد .. تحدثت معه عن موضوعه الذي كتبه .. كنت أشعر أنّ هذا الموضوع هو نتاج خبرات سيئة أو مؤلمة قد مر بها أو مر بها أحد أقاربه .. وأوضحت له (كتطييب لخاطره) أنّ هناك مبالغة واضحة فيما كتب .. وأنّ نظرته اتسمت بالسوداوية والتشاؤم .. وسألته عن سبب ثورته وغضبه .. فقال (قبل أسبوع يا أستاذ كنت أريد عبور الشارع للذهاب للمكتبة .. وإذا بسيارة بيضاء فخمة تمر بسرعة جنونية .. كادت أن تصطدم بي لولا رحمة ربي .. تجمهر الناس من حولنا .. وفجأة .. يفتح صاحبها الزجاج الأمامي ويقول لي وبكل احتقار..
(فتح يا عبد)!!
ثم ينطلق من أمامي وبسرعة جنونية..
لقد أهانني أمام الجميع .. فقط لأني أسمر البشرة .. لم يتمالك فارس نفسه .. فلمحت بريق دمعة يلوح من عينيه .. حاولت بكل استطاعتي أن أهدئ من روعه .. كي تهدأ أعصابه .. طلبت منه الجلوس قليلاً حتى يهدأ من ثورته وحزنه..
لا أنكر أني خجلت كثيراً من نفسي .. فموضوع فارس العظيم عن العنصرية والذي ولد وكتب في حصة أقل ما يقال عنها إنها مملة .. فتح أمامي أبواباً كنت أظنها مغلقة .. أو هكذا أردتها أن تكون .. فوظيفتي التي ما أحببتها يوماً وكنت أراها مجرّد وسيلة لكسب الرزق .. ها أنذا أكتشف أنها رسالة عظيمة لتوجيه النشء ورعايتهم والكشف عن مشاكلهم ومحاولة حلها قدر الإمكان .. بل واكتشاف مواهبهم والعمل على صقلها وتطويرها .. لكن ويا سبحان الله كانت رمية من غير رام .. فلولا ادعائي اعطاءهم حرية اختيار الموضوع ما ظهر موضوع فارس..
وذات صباح مشرق اتجهت لمدرستي في السادسة والنصف كالعادة..
في الطريق .. لاح لي من بعيد سرب حمام أبيض جميل مشكلاً لوحة رائعة غمرتني بالأمل والسعادة والتفاؤل .. دخلت غرفة المعلمين .. يا له من يوم جميل .. آه .. كم أحب يوم الأربعاء هذا .. وكعادة صباح كل أربعاء .. يكون الحديث منصباً حول حلقة شاعر المليون التي تبث مساء كل ثلاثاء سمعت زميلنا (عيد) يبدي اعتراضه على لجنة التحكيم عندما قامت باستبعاد أحد أبناء قبيلته قائلاً (كيف يستبعدون ال .. سنصوت له ونصوت .. حتى لو كان يهودياً المهم أنه من قبيلتنا .. وولد عمنا .. ولن نتركه..!!)
ابتسمت ابتسامة ممزوجة بالحزن والأسى على طريقة تفكير زميلنا هذا، فتصويته إنما هو لابن القبيلة وليس للقصيدة وجمالها ... لكن هكذا يريد البرنامج .. استنهاض النخوة من أبناء القبيلة للتصويت لشاعر القبيلة وجمع أكبر قدر ممكن من رسائل sms أما الشعر والرقي به فهذه مجرّد شعارات جميلة تخفي وراءها أهدافاً تجارية بحتة .. لا أدري لماذا خطر ببالي ذلك الفارس الشجاع الذي امتطى صهوة جواد الحقيقة فقال .. وقال .. وأبدع .. لا أدري لماذا تذكّرت ذلك الكاتب .. العظيم .. الموهوب .. المدعو ب .. فارس فرج..!