في وقت تالٍ نشر سيد عويس دراسة جديدة كرّسها هذه المرة لفحص فكرة المثقفين المصريين عن هذه المحكمة، وما إذا كانوا يؤمنون بالفعل بوجود سلطة للموتى على الأحياء. تضمنت الدراسة التي كتبت بلغة بسيطة، وحرص فيها عالم الاجتماع المصري على التوجه بنفسه إلى الأوساط الشعبية ومخاطبتها، أجوبة على أسئلة استبيان وزعه عويس بنفسه وشمل عينة عشوائية من طلاب الجامعات والمثقفين وبعض المتعلمين. إن أكثر ما يثير الدهشة في هذا النوع من الدراسات والاستبيانات أنها تظهر دون أدنى لبس حقيقة وجود نظرة واحدة تقريباً لفكرة الموت في المجتمع، كما تكشف بالقدر نفسه من الوضوح عن وجود معتقد راسخ بأن للموتى سلطة على الأحياء. ولئن كانت الأوساط الشعبية والفقيرة والمتدنية التعليم تؤمن بوجود (محكمة الأموات) فإن الأوساط الثقافية لا تكاد تملك نظرة مغايرة إزاء الموت والموتى، وإنْ كانت أقل إيماناً بمعتقد المحكمة. بعد نحو عشرين عاماً من نشر دراسة سيد عويس، وفي مطالع الثمانيات من القرن الماضي، ومع تعاظم الصعوبات والمشكلات التي واجهها المجتمع المصري، وخصوصاً بعد انهيار آمال الازدهار وتلاشي وعود الرخاء بفضل السلام مع إسرائيل، كما وعد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، عادت ظاهرة إرسال الرسائل من جديد ولكن نحو ضريح آخر. هذه المرة أصبح ضريح الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر هو المكان الذي اتجهت إليه بعض رسائل المظلومين. بيد أن الحكومة المصرية آنذاك، راحت تتكتم على الأمر وتنفي بشدة وجود أي أساس لمثل هذه الظاهرة. بحلول عام 1989- 1990 كشفت صحيفة الأهالي المصرية التي يصدرها حزب التجمع الوحدوي بزعامة خالد محي الدين عن وجود واحدة من هذه الرسائل، أرسلتها سيدة مصرية مجهولة تشتكي فيها للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وبشكل مباشر، من وقوع مظلمة ضدها وضد ولدها الذي تزعم أنه تعرض للضرب على أيدي الشرطة في المخفر. في هذا الوقت ثارت شكوك جدية في المجتمع المصري إزاء سلوك الشرطة مع المواطنين الذين اشتكى الكثير منهم من تعرضه للضرب المبرح. ومع أن الكثير من المصريين اعتقدوا بوجود الظاهرة؛ إلا أن الأوساط الحكومية -زمن الرئيس الراحل أنور السادات- ظلت تنكر أي معرفة لها بالأمر. في هذا الوقت سافرت إلى مصر.كان الغرض من الرحلة أن أتحقق بنفسي من صحة المزاعم التي وردت في صحيفة الأهالي. وبالفعل وصلت فجر يوم من نيسان 1990 إلى القاهرة وتوجهت إلى ضريح جمال عبدالناصر. وهناك سألت أحد موظفي الضريح عما إذا كان يعرف أي شئ عن ظاهرة إرسال الرسائل؟ أجاب الموظف بشئ من التحفظ أنه سمع بالأمر ولكنه لا يعرف أي شئ وليس بوسعه تقديم أي نوع من المساعدة. كان التكتم الحكومي ولا يزال هو السمة البارزة في سلوك الموظفين والجهات الرسمية التي لم تبد أي رد فعل إزاء الظاهرة. بعد بضعة أيام سألت وناقشت فيها الكثير من أهل الاختصاص والمثقفين والصحفيين المصريين، توجهت إلى بيروت لأنشر هناك دراستي عن (محكمة الأموات) متسائلاً: عن المغزى الحقيقي لهذا التحول في طبيعة الظاهرة. وكيف انتقلت من كونها ممارسة طقوسية ودينية تستمد جذورها من معتقدات شعبية ودينية قديمة فرعونية الأصل وسابقة على الإسلام، إلى ظاهرة اجتماعية تخص في الصميم مشكلات مجتمع عربي معاصر، يواجه مشكلات اجتماعية مستعصية. وأخيراً، كيف ولماذا تحولت الظاهرة نفسها إلى ما يشبه ظاهرة سياسية، وذلك مع دخول مواضيع جديدة للشكاوى، وبحيث يصبح الرئيس الراحل عبدالناصر، وعلى الرغم من مرور وقت طويل على وفاته، مصدراً رئيساً من مصادر السلطة التي تستطيع مواجهة الظلم السياسي، وربما صاحب السلطة الحقيقية في أنظار بعض المصريين الشاعرين بالظلم. كانت فكرة وجود (محكمة) في العالم الآخر تقتص من الأحياء الذين يرتكبون المظالم، وأن للموتى - مهما كانت درجة قداستهم- سلطة على الأحياء،لا تزال مستمرة في الوجدان المصري، وهي فكرة تؤمن بها شرائح اجتماعية مختلفة، الكثير من أفرادها هم على مستوى عالٍ من التعليم. وكما بينت دراسات تالية؛ فإن جذور عقيدة الإيمان (بسلطة الضريح) تضرب عميقاً في تربة معتقدات دينية بعضها سابق على الإسلام، ولكنها مستمرة في الراسب الثقافي الاجتماعي وهي تفعل فعلها بقوة وزخم مثيرين للدهشة. في مجتمع يعتقد الأحياء المظلومون فيه، بأن انتصارهم على ظالميهم، يمكن أن يأتي ذات يوم مهما طال انتظاره، وأن قرار الانتصاف لهم سوف يصدر لا محالة عن محكمة عليا في السماء؛ فإن لمن المتعذر بالفعل تخيّل وجود قطيعة ثقافية. إنه مجتمع قديم لا يزال مستمراًً منذ خمسة آلاف سنة أو أكثر بقوة زخم معتقداته الروحية التي امتزجت فيها السياسة بالمظالم الاجتماعية، والدين بالمعتقدات الشعبية كما لو أن الزمن لم يتوقف قط.إنه مجتمع (محكمة الأموات) الذين سوف يقتصون للأحياء الضعفاء.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244
دمشق