ويلازم هذا التأمل في الأطر الخانقة على مستوى الأشياء والمشاعر والأماكن والأزمنة إدراك حقيقة (الميلان) التي طرأت على الأشياء وأخرجتها عن خطوطها المستقيمة؛ من هنا تنشأ الرغبة الجامحة في موازنة الأمور وإعادتها إلى نصابها. وإن تمكنت البطلة من تعديل (لوحة قد مالت... لأنها عادة ما تقوم بتعديل اللوحات وموازنتها بحد أفقي) - 38 إلا أنها تقف عاجزة عن تعديل فمها المائل إلى اليمين. شلل وجه البطلة وميلانه يقفان كأيقونة تمثل حالة اللا تناسق التي اعترت الأوضاع في البلد المنكوب. أما عملية التجميل فهي مشروع تلهية فاشل. يصرح البروفيسور في جراحة التجميل في تركيا قائلاً: (ستستمر حالة اللا تناسق لديها ..) - 17 وتظهر حالة اللا تناسق في جسم أم غايب؛ فرأسها كبير وكتفاها صغيران حتى أن دشداشة نومها لها كتافيات ثخينة - 56 وتعتقد دلال أن الأشياء ستكون أجمل عندما لا تكون منحرفة - 79 وتلحظ ميلان الرف في محل الكوافير - 166، وتقلب النعال إلى وضعه الصحيح - 143 الانحراف عن الوضع الصحيح علامة مرضية تشير إلى اختلال يجب تسويته، وحين غير النحل عادته في الطيران السليم على شكل خطوط مستقيمة - 226 وراح يطير بدوائر كان ذلك مؤشراً واضحاً على جنون أصابه.
من الواضح أن مشروع النحل هذا كان مشروعاً فاشلاً رغم كل الجهود المضنية التي بذلها أبو غايب؛ فلأسباب خارجة عن سيطرته (تحول نحله الوديع إلى حشرات شرسة) - 226 لتتحول بعد ذلك من شرسة إلى شريرة تلسع بلا سبب ولا تهدأ بعد أن حامت حول دماء بشرية - 242 وتسبب فشل مشروع النحل في تدمير مشروع اللوحات التي فقدها أبو غايب كما فقد حريته بينما أبقى على قشوره المنهمرة دون أن ينجح في الحصول على علاج ناجع. ها هو زمام الأمور يتفلت من بين أصابع أبو غايب لينكشف الوهم الذي خدر به وعيه طوال زمن الحكي. أما مشروع الأعشاب الذي اضطلعت به أم مازن فقد ذهب أدراج الرياح بعد القذيفة التي أصابت شقتها وبعثرت أعشابها وخلطاتها: (سالت من القناني المشروخة سوائل ملونة وتداخلت: خل، حليب، عصير شمندر، بذور يانسون تغطي الطاولة) - 191 وحاولت الخادمة بدرية لم الشتات وإعادة الأعشاب المتناثرة وتوزيعها في أكياس نايلون بدل الأوعية والحاويات والقناني التي انكسرت، لكن (صار يصعب التمييز بين عشب وآخر ومسحوق وآخر) - 206 وراحت بدرية تخلط الحابل بالنابل وتبيع الخلطات في غير دواعي استعمالها فتقول: (الله يستر.. لقد بعت خلطة فقدان الذاكرة للشابة التي تعاني من التهاب لوزتين، وأعطيت مسحوق علاج الكرب لسيدة يعاني ابنها من حب الشباب، وأعطيت صاحبة الإمساك المستعصي دواء للبحة، وصاحبة الأرق حظيت بسحلب مخصص للبواسير..) - 208 وها هي الفوضى تعود في أفظع صورها وتتشعب كل الأمور خارج نطاق سيطرة أم مازن؛ فودعت النص ورحلت عن العمارة بشكل نهائي، وهي تقول: (يا كثرة أصحابي من يوم طرفي دبس... يا قلة أصحابي من يوم طرفي يبس).
وتشارك دلال في سلسلة الإخفاقات من خلال علاقة الحب التي ربطتها بعادل المخادع الذي تقرب ليستفيد منها في إنجاز مهمته التجسسية. نجح عادل في عمله وفشل مشروع الحب كغيره من مشاريع التلهية النصية؛ فهذا ليس زمن الخير، وإنما نقيضه زمن الشر الذي تفشى فيه الغش والغدر. هذه أيام كل شيء فيها مغشوش - 28 واختلط فيها الفاسد بالطيب والحقيقي بالإشاعة، زمن خفافيش الليل التي ترقع وترمم بأغشية الوطاويط: كله غش في مواد البناء - 28 وبعد أن فقد النخيل رؤوسه.. بقيت الأعمدة الصماء - 192 تشهد صامتة تحول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع. والصمت هو أسلم الطرق في بلد يعج بالأسرار ويحذر من مغبة الكلام: (صاموت لاموت.. كل من يحكي يموت) - 162 كل تفاصيل الفيضان الكلامي عن النحل والأعشاب والصدفية واللوحات والأزارير يقابله الكتمان والضبابية فيما يخص حقائق الحرب والسياسة الداخلية؛ فالحصار قد قطع اتصال الناس بالخارج، لكنهم لن يعرفوا (ما يجري خارج أسوار المدينة أو داخلها) - 242 لأن الحيطان المحاصرة (لها آذان) - 242 وعلى الرغم من توصية أم مازن لزبوناتها بأن يتعاملن بينهن (بكتمان وسرية تامة. يجب ألا يعرف أحد عن أعمالنا، وإلا سيخرب الشغل) - 42 إلا أن إلهام تقر بأن (لا شيء يخفى في هذه العمارة) - 74 فالمخبرون يراقبون كل صغيرة وكبيرة ويزرعون الخوف أمام النوافذ ويقتاتون مثل النحل على الدماء.
تختل العقول حين تحاصر وغياب العقل رديف للجنون. في النص يرتبط الشر بغياب العقل؛ فالنحل يصبح شريراً عندما يصيبه الجنون بعد تذوقه طعم الدم، وهؤلاء المحاصرون في دوائر خانقة يرشفون رحيق العنف وينغمسون في دوامة العدوان الدامي والتخريب التوحشي. حيت تنشق الخلايا على نفسها تقف على حافة التمزق إلى كيانات مستقلة، والخلية التي تحارب نفسها هي خلية محكوم عليها بالإعدام الذاتي، وما الحروب الأهلية إلا عبارة عن تفتيت داخلي أشبه ما يكون بالانقسام الخليوي.
يعمل هذا الربط بين عدوانية مجتمع النحل وعنف المجتمع البشري على إيضاح الكثير من السمات التي اكتسبها الشعب العراقي في صراعه للبقاء. في منحل أبو غايب حيث يشيع الاقتتال والتطريد والسرقة راحت طائفة قوية تشكل اقتحاماً على شكل غارة، ثم تسرق من طائفة ضعيفة في ساحة حرب كانت نتيجتها هلاك الطائفة الضعيفة وموت أكثر أفرادها 231 بعد أن أصبحت ثقيلة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها - 226 وهذا الموقف لا يختلف كثيراً عما يدور في أرض الواقع وبين البشر حيث الاعتداءات على الضحايا والاستقواء على المستضعفين والاقتتال فيما بينهم بجنون وعصبية: (راح النحل يسرح بجنون حولنا من كل جانب بز إز بز إز) - 230 نتيجة إحساسه (بالغبن) - 231 وهو بذلك لا يختلف أيضاً عن الناس الذين يكسبون عيشهم على حساب الآخرين؛ فليس لديهم خيار آخر، كما يقول سعد، لضمان العيش - 275 والأدهى من ذلك أنهم ربما اقتاتوا على الأعضاء البشرية التي كانت إلهام تسرقها من المستشفى بعد العمليات ثم تبيعها لصديقها اللحام؛ ليتولى هو بيعها مفرومة مع لحم الغنم أو البقر - 160 ويتوازى هذا الغش الصارخ مع قرار أبو غايب ألا يغش ويقدم للإنسان وجبة عسل مصنوعة من دم أخيه الإنسان، ومن ثم يقرر أن يتخلص من النحل الدامي، لكن هذا الموقف البطولي الإنساني لا مكان له في زمن الشر الذي تعاني فيه كل المعايير من الميلان.
وتتجلى جوانب من مآسي هذا الحصار في هذه التغيرات المزلزلة التي أربكت البنية الاجتماعية وهزت قيمها وفككت علاقاتها الرابطة بين أفرادها؛ فالمرأة التي تشتكي زوجها لأم مازن تقول: كان رائعاً معي حتى ضيق علينا الحصار. بعد ذلك أخذ يهملني - 43 والخالة أم غايب أصبحت دائماً في حالة تذمر و(نق) ولم تعد تأبه إن كان زوجها سيأتي أم لا - 27 هذا التفكك المهول في مساحات التواصل الاجتماعي جعل الناس ينظرون إلى الزواج كقيد وحصار وأدى إلى تهاوي الطبقات الاجتماعية وضياع القيم الإنسانية في مجتمع مخترق ومعزول يتقهقر نحو الخرافة والهمجية. يرصد النص بحرص وبراعة خطوات العودة إلى الوراء والانحدار نحو الهاوية؛ ففي حالات التدهور المستمرة - 121 يتلف كل شيء بطيئاً.. - 87 كالأمراض التي تقضي على الناس ببطء - 77 حتى يعود الإنسان تحت الحصار إلى التساوي مع الحيوانات في بدائية تتضح معالمها في مشهد ساخر تصف فيه بتول الخضيري عراكاً بين امرأتين تعودان أم مازن: (امرأتان في صراع ديكة، أو دجاجات بالأحرى... - 143 الدجاجة العليا أصبحت تحت رحمة الدجاجة السفلى التي راحت تبقبق: سأنتقم منك يا وقحة... الدجاجة (ألف) هي زوجة الرجل الذي تحاول الدجاجة (باء) إغراءه..) - (144).
عندما يحشر الإنسان في أماكن ضيقة تمنعه من الوقوف والتحرك بحرية وأمان فإن عقله يضمحل ويتردى إلى درجات سحيقة من التخلف والقسوة الهمجية ويصبح الفنجان مصدر معلوماته ومجال قراءاته المفضلة: (عندي فترة راحة قصيرة. شربت القهوة. قلبت الفنجان لأبحث عن دليل. همست فيه: هل ستنشب حرب أخرى؟) - 262 هذه هي آلية الضغط الحصاري الذي ينزل بالسقف حتى الرؤوس، ثم يدفع بالأجسام إلى أسفل ويضغطها حتى تصل إلى القاع وتتساوى مع تراب الأرض. في أكثر من موقع يشير النص إلى هذا الانحطاط والتردي إلى منطقة الصفر. عندما مُنعت الخيوط وأقلام الرصاص من السوق؛ لأنها تدخل في صناعة الأسلحة؛ فذلك شكل عودة إلى عصر ما قبل الصناعة... - 111 وعندما يتعارك أبو غايب وزوجته يؤنبها قائلاً: (تأكدي أنك بدأت تتقنين فن التضاؤل) - 211 ثم تعلق الساردة على هذا العراك قائلة: (كلما خاضوا في النقاش انفتح أمامي كتاب (القراءة الخلدونية) للصف الأول الابتدائي (دار داران دور نار نيران دينار ديناران دنانير...) - 13 وعندما تحاول أم مازن تعريف بدرية على الأعشاب بدت كأنها تحفظها درساً لأول مرة في (مراحل محو الأمية .. زمن راشد يزرع.. زينب تعمل) - 209 هذا الاضمحلال العقلي دليل على الجهل وهبوط الثقافة إلى مستوياتها الأولية ووقوفها على خط النهاية لحضارة ومدنية كانت في زمن الخير في أوجها.
تتبدى إخفاقات ثيمة الحرب - الخراب الروحي والنفسي الذي تركته، وفي غرق العراقيين في لجة البؤس والتعاسة تطحنهم أزمات العيش؛ فيركضون وراء اللقمة على حساب الخيانات والسرقات والغيرة والحسد. لكن أسوأ الشدائد التي حلت بالعراقيين كان الحصار الذي ضرب من حولهم عزلة رهيبة هبطت بالإنسان إلى درجة سحيقة من الهمجية البربرية جعلت الحشرات تبدو أرقى منه، إلى درجة أن الراوية ترفع تفكير النحل فوق مستوى عقول البشر قائلة: (يجب أن تتعلم أم مازن من هذه الحشرة فلسفة الحياة) - 218 وعلى حافة التمزق - التفتيت يتدهور المحاصرون إلى الصفر وينحدرون نحو الهاوية حيث يشربون رحيق العنف والعدوان ويقفون في مواجهة التردي إلى التوحش.
تعلن النهاية أن الغايب هو العقل والتفكير السليم القادر على فرز الأسباب من النتائج والخروج من دائرة تغلق مداخل المنطق ومخارجه. ومع غياب العقل الذي يميز الإنسان يصبح كالنخيل وقد أطيح برؤوسها: هي أعجاز نخل خاوية، هي أجساد خاوية من العقل والعاطفة تأخذ في الهبوط تدريجياً حتى تصل إلى خانة الصفر حيث يغيب الأمان والرقي والراحة والحب.
لكن النهاية حتى وهي مؤلمة تحمل بالضرورة بذرة بداية أخرى، وقد يظهر أن النص يفتح باباً للأمل في ظلام التجهيل والتضليل حين يختتم أحداثه بمشهد تطمئن فيه دلال حامد بائع الجرائد بأن الوقت لا يزال أمامه ليتعلم القراءة والكتابة وتبدأ في إعطائه الدرس الأول:
- (هيا سأعطيك الدرس الأول.
سحبته من يده وقدته حتى الكرسي:
- اجلس. هكذا نبدأ.
تناولت قلماً وورقة:
- ردد بعدي .. ألف، باء، تاء)... - (264).
لكن مواقف أخرى في النص توضح أن النهايات والبدايات تلتقي عند نقطة الهبوط والصعود وتتداخل كما تداخلت سابقاً خطوط الأسباب والنتائج. عندما يقرر أبو غايب بيع لوحاته يقول إنه سيبدأ من الصفر، وعندما تعلم أم مازن بدرية أنواع الأعشاب من جديد تقول لها: (نرجع للصفر.. هذا بابونج أصفر.. - 209 وتقول دلال إن زوج خالتها قد علمها في أول درس رسم كيف أن كل شيء يبدأ بنقطة... - 220 وبنفس المنطق فإن كل شيء ينمو ويكبر؛ ليعود فيذبل ويصغر في (دورة الحياة الطبيعية)، وما الغيوم في السماء إلا ماء الأرض الذي سرق فرصة من الدنيا ليطير - 187 وعند هذا المنعطف تعود فكرة الحصار للظهور؛ فدورة الحياة هي أيضاً دائرة مغلقة.
يبدأ النحل بناء خليته بمادة البروبوليس الصمغية وهي كلمة يونانية تعني حرفياً (بادئ مدينة) وتستخدم لوصف مادة البناء الأولية - 224 كذلك فإن بناء المدن المجتمعية يبدأ بلبنة واحدة تتطور وتكبر لتصبح حضارات شامخة، ثم يعتريها خلل وميلان فتتهاوى وتضمحل، وعند نقطة اندثارها تلقي بذرة ارتقاء جديد. من هذا المنطلق تظهر لنا أهمية إشارة النص إلى أزمان سبقت زمن الخير، أزمان تتأسى عليها الخالة قائلة: آه أين زمانهم؟! وهنالك حقبات تاريخية يحكي عنها بحماس أبو غايب، فحين ذهبت دلال إلى محاضرته في قاعة نقابة الفنانين، راح يعرض صوراً عن مقتنيات المؤسسة العالمية للآثار هي في مجملها كنوز نفيسة، معالم بنائية دفينة ولُقى أثرية في الحواضر القديمة: نمرود، نينوى، الحضر، المدائن) - 19 ويؤكد أبو غايب بانفعال لدلال أهمية هذه الأرض التي شهدت حضارات كثيرة بادت ثم بعثت من جديد.. (يا دلال مهما تجولنا في العالم فسنبقى نحن الأصل.. وطننا هو مهد الحضارة. إن الإنسان عرف الكتابة لأول مرة في العراق على الرقم الطينية السومرية، وهناك ولدت أول مكتبة في العالم، وأول مدرسة، وأول ملحمة، و.. و..) - (16).
تقف دلال في آخر مشهد واهنة متعبة بعد دورة سردية كاملة داخل النص عند نقطة البداية، هكذا ظهرت دلال في أول مشهد رضيعة هشة وعاجزة داخل لفافة، واستقرت (اللفافة على الأرض: أنا) - 7 عند الصفر تمسك دلال بخيط الأمل وتبدأ في البناء من جديد وهي تحلم بمستقبل آت وجيل صاعد، تقف محاصرة عند نقطة زمنية بين مغادرة ودخول. رواية (غايب) إعادة بناء، تعمير للدمار وتصليح للخراب، تفرض نظامها السردي على عشوائية الحرب وفوضويتها وتنتهي بفتح الباب على الأمل والحقيقة والحياة.
انتهت
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
lamiabaeshen@gmail.com