كانت الأشجار المتناثرة على جانبي الطريق العتيقة، هجرتها الطيور بعد أن حطت أوراقها الشائكة، وقطعان الإبل هائمة في الوديان.
كل ذلك لم يمنع الحافلة الرمادية المتآكلة من الوصول، والوقوف أمام جدار المنارة التي تمركزت مكافحة لجهل الإنسان ومحو أميته. ارتفعت أصوات من الداخل.
- لقد وصلت....... الحافلة تصل... هيا بسرعة... جاءت مبكرة هذا اليوم!
الكل بدأ يستعد للصعود، إلا شموخ فهي ليست كعادتها! فاليوم يوم الأربعاء، وبدأت بتوديع طالباتها لأنها سوف تغيب عنهن مدة يومين.
- إلى اللقاء يا حبيباتي، أراكن على خير، مع السلامة.
تمضي نحو الحافلة بخطى متثاقلة، تضع إحدى قدميها على بداية الباب والأخرى على التراب، تتأمل المدرسة التي أمضت فيها خمسة أعوام بنظرة يائسة، تنظر إلى الفناء والأبواب الخشبية، إلى القرية والقرويات اللاتي أمسكت كل واحدة منهن بيد ابنتها، والسماء التي ملأتها الغيوم الشفافة، إلى السائق الذي تغير هذا اليوم، وبدأ التوتر واضحاً عليه حتى أنه انزعج من تصرفها وطلب منها الصعود.
- بسرعة إذا سمحتِ، حتى لا نتأخر.
تصعد وتجلس بجوار زميلتها أمجاد وصابرين، المتضجرتين من تأخيرها. تسحب المقبض التالف، وتغلق الباب لتنطلق الرحلة، وتفتح هاجسها المتكرر.
- كل شيء مختلف! إلا أنا! الطقس مختلف، قائد المركبة، موعد العمل! يبدو أن الله قدر بقائي هنا.
ينتابها شعور، غريب وكأن شيئاً ما سوف يحدث؟ تتأمل زميلتيها، صابرين التي أثقلها الحمل، وهي في بداية نومها محاولة الهروب من الواقع المرير، أمجاد اللاهية بين تقليب صفحات المجلة، بأنامل جملتها الحناء، وأصباغ الزينة والعطر الذي أزكم الأنوف ودفاتر التحضير، فهي لا تزال حديثة زواج.
تتحدث شموخ برتابة إلى أمجاد بعد أن أغلقت المجلة ونظرة إليها بشفقة.
- هل تعتقدين بأن الموافقة على انتقالي إلى المدينة ممكنة هذه المرة؟
- إن شاء الله سوف تنعمين بما تريدين.
- ولكنها المرة الرابعة التي تذهب أوراقي وتعود بنفس الإجابة التي لم تتغير منذ أربعة أعوام.
حتى المرة الأخيرة، وبعد إضافة شهادات الشكر والامتياز، والخدمة وتقرير إعاقة زوجي. نفس الأعذار نفس الأعذار!
حاولت أمجاد التي بدأت تشعر بالإحباط، هي الأخرى الترويح عنها.
- تفاءلي خيراً، واصبري.
- لا أعتقد ذلك! لقد عملت عندنا مدرسة لمدة عام ثم انتقلت بدون عذر.
تصمت قليلاً بعد أن أنست بقول صديقتها، ثم تردد.
متى أنعم بتغيير المدرسة متى يكون ذلك.
تسند جسدها النحيل إلى المرتبة الجافة، تغفو محلقة نحو أفكارها المتأزمة بين تربية أطفالها، وإعاقة زوجها، ووالدها المسن، ليس هذا فحسب! بل وأجرة الخادمة، وأجرة الحافلة أيضاً المرتفعة الثمن، فقد تعودت خلال عملها على أساليب ملاك الحافلات.
لم يدعها صفير العجلات من الاستمرار في خيالها. يلهج لسانها بذكر الله.
- حسبي الله ونعم الوكيل.
تندرج عبارات مؤلمة، على وجهها الشاحب، الذي لم يسلم من التجعد، تتماسك وترضى.
- الحمد لله على هذا القدر.
تخاطب السائق المتهور، لعله يقلل من السرعة الجنونية.
- لو سمحت أين العم أبو محمد؟ يتجاهل ما تقول في المرة الأولى.
تكرر مرة أخرى بصوت مرتفع قليلاً - لماذا لم يأت اليوم كالعادة؟ هل هو بخير؟
يجيبها غير مبال - إنه بخير وأنا ابنه.
شعرت أنه لا يرغب في التحدث معها، فهو مشغول في طي الطريق الجديدة بالنسبة له.
تنهدت، وبدأت بتأمل المرتفعات الشاهقة، التي مال لونها إلى السواد بعد الزوال، غير أن صدى فحيح العجلات المتآكلة، زاد فجأة بشكل مخيف، وأيقظ صابرين وأربك أمجاد، هذا الصوت جعلهن جميعاً يتساءلن؟
- ما هذا الشيء الغريب؟ هل تسمع هذا يا أخ؟ لعله يقلع عن تهوره.
يحاول التبرير.
- لا عليكن إنه أمر بسيط جدا، لكن الارتباك يبدو واضحاً عليه،
ينفد صبرهن من طريقته في المراوغة، يصرخن بأصوات متفاوتة.
- نرجوك انتبه فالطريق مزدحم.. هلا توقفت حالاً.. (يا أخي اسمعنا).
ينزعج من كثرة الإلحاح ويطلب من الجميع السكوت بصوت جهور.
- اصمتوا. أرجوكم اصمتوا.
يحاول التخفيف من السرعة، ولكن دون جدوى فقد وصل إلى منحنى شديد الانحدار!
ترتفع حدة التوتر، وتشرئب الحناجر، وتعلو الصرخات والضوضاء، بعد الدوي المروع للعجلة الأمامية، تقفز الحافلة السياج المعدني، تنقلب رأساً على عقب، تتسارع في الدحرجة، أخيراً تتوقف على حجارة صماء، يختفي صوت المحرك ثم تنقطع جميع الأنفاس، يتجمد الدم في العروق، تسيطر القشعريرة الثلجية على الرؤوس، تزول السحابة الصفراء، يستقر التابوت الحديدي، وتتلاشى الأحلام الواعدة، بعد تحليق هموم الخريف.