إعداد - عبدالحفيظ الشمري
نادراً ما يشير الشاعر عبدالله بن إدريس إلى أن هناك مدينة ما تسكن همّه الشعري، وتسترعي ذائقته الشعرية، فهو وإن عكف على وصف المدن واحدة تلو الأخرى، فلن تجد ما يمكن أن تقول إنه ينجذب إليها، حتى وإن حاولت أن تستقصي قصائده فلن تجد ما يجعلك على يقين بأن الشاعر ابن إدريس يميل إلى مدينة بعينها قد يشد رحل الفكر إليها.
فكل مدينة يحل فيها الشاعر يسعى إلى أن يدون أفضل ما يرى عنها، إن شعرا أو سردا، فهو، وإن طاف الكثير من العواصم والبلاد لم يذعن شعره لفكرة المكان الواحد، إنما باتت أجمل الأماكن لديه هي ما تحفز قريحته لانثيالات قصيدة ما.
فلو تتبع القارئ مسيرة رحلته بين المدن فلن يجد إلا ذلك الطالب اليافع الذي يبحث عن العلم، والدراسة، أو ذلك الخريج الذي يشحذ همته للبحث عن إجازة علمية تحقق طموحه، وتروي شغفه بالمعرفة.. فمن منابته الأولى قرية (حرمة) في أطراف منطقة سدير قرب العاصمة الرياض انطلقت أولى خطاه نحو تحقيق الذات دارسا، وطالبا للعلم وشاعرا، وأديبا ورئيساً لأدبي العاصمة الرياض على مدى عقود.
كثرت المحطات في مسيرة الشاعر، وزاد تعلقه في الشعر الذي بزغ فجره في التجارب الدراسية الأولى؛ فقد رثى والده الراحل وعمره لم يتجاوز الاثني عشر عاما، ليثبت له أن الشعر يبحث عن مكان أثير لديه.. لتنهض (الرياض) في ذائقته؛ فيسجل أنضج القصائد، وأكثر تعبيراً عن وجدان ذلك الشاب الذي عني كثيرا بثقافته، واقتفى عن حسن إدراك أثر الشعراء الذين عنوا بالمفردة الشعرية التي تمتاح من حب (نجد) بوصفه شاهداً على ولادة الشعر العربي في فجره الإنساني الأول.
ولكي يثبت الشاعر عبدالله بن إدريس أنه معني بهذا الجزء الغالي من الوطن، فإنه انبرى إلى تأليف كتابه (شعراء نجد المعاصرون) مدركا أن نجدا تسكن شغاف قلبه شاعرا، وأعماق عقله باحثا ومؤلفا، لتتناغم في هذا السياق تجربتي الشعر، والتأليف على حد سواء.
حتى وإن جاء إيحاء عنواني ديوانية (في زورقي) و(إبحار بلا ماء) مبنيا على صورة الشاعر الذي عاش على ضفاف البحار أو الأنهار، إلا أن القارئ يدرك دون عناء أن الشاعر عبدالله بن إدريس لم يكن معنيا إلا بتلك الفيافي المتجردة من معاني الخضرة والماء إلا فيما ندر حينما يسبغ الربيع العابر من كرمه العميم بعض المناهج على تلك الأنحاء، لتتحفز قريحة الشاعر لأن يترنم في وصف تلك الصور الآسرة، لذلك نراه وقد انبرى إلى رسم صور حياتية تلتقط بعض الفأل على نحو:
(يغدو النسيم عليلا في نضارتها
ريَّا الأفانين لم يذبلها إعصار
يلقى الخلي بها ما طاب من متع
متى تبلج في الآفاق إسفار)
حتى وإن طاف الشاعر عبدالله بن إدريس كل العواصم فإن الرياض أثيرة لديه، بل نراه وقد صاغ من هذا الوئام معها مشهدا شعريا آسراً يضاف إلى رصيده الوجداني المعبّر، فنراه يلتقط في شعره جماليات المواقف، وصور البهاء المدهش لتمتد أواصر الوجدانيات بين حرمة والرياض بشكل متناغم.
فكلما استقصينا تجارب الشاعر ابن إدريس في سياق ما يرمي إليه من صور شعرية نقف على حقيقة أنه ظل شديد الولع في اقتفاء مفردة الخطاب الإنساني الذي يستشعر في المكان هواجس اللقاء الحميمي الآسر، ففي كل مدينة يقيم فيها الشاعر تنشأ علاقة ما تسهم في خلق قصيدة تخلد في وجدان الشاعر والقارئ على حد سواء.
فالمدن التي زارها الشاعر عبدالله بن إدريس حملت في طواياها أسرار الجمال الذي عني الشاعر باستظاهره على نحو يؤسس ولعه في جماليات المكان أياً كانت جهته.. ناهيك أنه أبدع شعرا في مراتع صباه، وصاغ من حبه للوطن الكثير من القصائد الذائعة بهاءً وجمالا.