إعداد: محمد المنيف
يسرنا أن نستضيف هذا الأسبوع رمزاً مهماً من رموز العطاء التشكيلي العربي الذي يفتقر لأمثاله من المخلصين خصوصاً في مرحلتنا الحالية التي نعيش فيها تأرجحاً بين تحديد الهوية وبين القبول بمعطيات العصر والتجديد نتيجة تقارب الثقافات ووصول المعلومة بوقت لا يمكننا ملاحقتها بقدر ما نحتاج لمسار موازٍ يحقق لنا كيفية توظيف هذا الجديد مع الاحتفاظ بمنطلقنا ومرجعيتنا البصرية العربية والإسلامية، ضيفنا لهذا الأسبوع الفنان طلال معلا الناقد والمفكر والباحث في الفنون التشكيلية على وجه الخصوص والبصرية بعموميتها والشاعر الذي نسج قصائده ورسم لوحاته من خيوط الذاكرة ومن انعكاس الواقع، تعرفت على الفنان طلال معلا قبل أن ألتقي به وكنت من أشد المعجبين بجهوده ومثابرته وقدرته على توظيف الوقت للإنتاج المتعدد مع أن النبع واحد وهو الوجدان.
بعد لقائي به أكثر من مرة منها زيارته لمرسمي وقت حضوره للمملكة للمشاركة بدعوة من وزارة التربية والتعليم لتحكيم مسابقة الرياض الدولية تبعها لقاء آخر عند مشاركتي في ندوة في الشارقة بعنوان: تحولات الراهن (مستقبل النقد العربي)، اكتشفت في هذا الرجل ضعف ما احتفظ به له من معرفة، رجل هادئ رغم ضغوط العمل، مفكر وباحث ومبدع في الشعر واللوحة مختزل للكثير، مطلع، يجعلك تحسب ألف حساب للكلمة أو المعلومة قبل أن تدخل معه في حوار حول الفنون البصرية، متواضع يقبل رأي الآخر يحترم قدرات الغير، محب لكل الفنانين العرب فأصبح لديه كنز من الأصدقاء بعدد أيام كفاحه الإبداعي إذا صح التعبير.
رحالة الفن التشكيلي
في كل اتصال مع الفنان طلال أجده في بلد من بلاد الله الواسعة لا يبقى في أي منها إلا بقدر وقت إنجازه مهمته الفنية.. إما ليقيم معرضاً لأعماله، أو مشارك في ندوة، أو محاضر، أو محكم لمسابقة، إضافة إلى عمله الشاق مديراً للمركز العربي للفنون بإمارة الشارقة، التي قضى فيها جل سنوات عمره مخلصاً ومتفانياً وكاسباً ثقة من ولوه الثقة، ساهم الفنان طلال معلا بالكثير من المشاريع التشكيلية وفي مقدمتها بينالي الشارقة للفنون التشكيلية الذي أصبح اليوم أحد أهم المناشط والفعاليات التشكيلية على المستوى العربي وصولاً إلى العالمية من خلال ما وضع له من خطط تطوير.
وإذا كنا قد علمنا عن رحلات هذا الفنان الدولية فإن رحلته الفكرية عبر التأليف والكتابة والبحث لا تقل عن سابقها فقد ساهم بإثراء المكتبة العربية بمؤلفاته وساهم في بناء برنامج كبير في هذا المجال عبر الندوات المتعددة التي يعدها تحت إشراف مباشر من إدارة الثقافة والإعلام بالشارقة نتج عن تلك الندوات إصدارات لا يمكن أن تخلو منها مكتبة فنان أو مثقف عربي، كما لا يغيب عن ذاكرة أي فنان أو مثقف ما يُنشر لطلال معلا في الصحف العربية والأجنبية من مقالات تتضمن تحليلات وقراءات حول الفن والشعر والأدب.
معلا وسبل نشر الثقافة البصرية
لم يتوقف عطاء الفنان طلال معلا عند حدود القلم والكتابة كمشارك عن بُعد بل واصل ركضه في كل السبل التي تخدم الفنون البصرية فكان مدير تحرير مجلة (الرافد) الثقافية من عام 1993 إلى 1997 وأشرف على إصدار مجلة الصورة ويعمل منسق الندوة الدولية الموازية لبينالي الشارقة (الشعرية البصرية 1997) ومشرفاً على معهد الشارقة للفنون كما أعد مجموعة من الأفلام الوثائقية.
وكان من أبرز من قدم البرامج المتعلقة بالفنون البصرية عبر تلفزيون الشارقة منها البرامج التالية: (تأملات جمالية) (عيون عربية) (قضية للتشكيل) (دعوة للتشكيل) كما ساهم في جانب التأليف بالعديد من الإصدارات أقربها كتابان عن الفنانين الإماراتيين.. إضافة إلى ما سبق من مؤلفات منها على سبيل المثال: (أوهام الصورة) (نصوص تشكيلية) الشارقة (العنف والفن) (نصوص تشكيلية) الشارقة، (المحترف الإماراتي) (نصوص تشكيلية) الشارقة (عزف منفرد على الطبل) (نص) دمشق (مبدعون من الشام) دبي (عبد القادر الريس)، دبي، مؤسسة العويس، (الفن العربي والبحث عن الهوية)، (الفن العربي بين التغيير والإبهام) (مقاربة الوهم والخيال والحلم بآليات التعبير الجسدي دراسة جمالية) (شكل الذاكرة جسد) (أحوال الصورة) (نصوص تشكيلية) (موت الماء) (شعر عزف منفرد على الطبل) نص (أوهام الصورة) نصوص تشكيلية (المحترف الإماراتي) (نصوص تشكيلية) (العنف والفن) نصوص تشكيلية - التشكيل العربي.. الثقافة السائبة نصوص تشكيلية.
هذه النماذج من عطاءات الفنان طلال معلا منحته الكثير من التكريم كما منح عضوية العديد من المؤسسات العالمية والعربية فهو عضو هيئة الإياب اليونسكو اتحاد الفنانين العالمي (باريس).. الثقافية وعضو اتحاد التشكيليين العرب وعضو اللجنة العليا لبينالي الشارقة الدولي للفنون والمقرر العام للبينالي وعضو منظمة النقد العالمي (الآيكا باريس) وعضو نقابة الفنون الجميلة سوريا وعضو اللجنة العليا لملتقى الشارقة الدولي لفن الخط العربي، إضافة إلى عضوية مجموعة من اللجان والاتحادات الأخرى.
الصمت عنوان وقضية
بعد تلك الإطلالة بما استطعنا اختصاره من سيرة ومشوار الفنان طلال معلا في الجوانب المتعلقة بالثقافة البصرية من خلال جهده الإعلامي ومسيرته الغنية في التأليف والبحث نعود للحديث عن الجانب الذي نحن بصدده في هذه الصفحة وهو الفن التشكيلي الذي مارسه الفنان طلال بتعمق في الفكرة والبحث عن الجديد والخروج من خلالها من عالمه الخاص نحو آفاق المتلقي الناضج الذي يرى أبعاداً أكثر نضجاً في الفنون البصرية تجاوز بها النظرة السطحية للتسجيل والتعبير الساذج المكرر، لقد صال الفنان طلال وجال في بحور الفن عبر رحلاته وزياراته العربية والعالمية أو من خلال الزخم الكبير من المعارض في محيطه في دولة الإمارات عامة وبالشارقة على وجه الخصوص في بينالي الشارقة على مدار دوراته المتعددة أو ما يراه عن قرب يسكن معه ليل نهار في مرسمه أو ما يشاهده في مراسم المبدعين أمثاله.
كل تلك المختزلات لم تكن إلا رصيداً ثقافياً أحاله إلى معمله الوجداني بقناعته فخرج منه بأن لا شيء يتكرر ولا يمكن لأي منا أن يلبس ثوب غيره، فاستخلص من كل ذلك الزخم خطا قد يكون سبق طرحه لكنه لا يشابهه فيه أحد فانطلق بمعرضه الذي اختار له اسم (الصمت) وانتقى من كل ما يراه أهم ما يمكن التعامل معه وهو الوجوه الأصعب في كل شيء ففيها تكمن كل الحالات وفيه تنكشف الأسرار، الغضب والفرح، الدهشة والخوف، الامتعاض والسرور، تلك هي الوجوه لكن الأمر يتعلق بمن يمكنه التعامل معها في لوحاته ويجعل منها مصدر إلهام وينبوع لا ينضب فكان لهذا المعرض محطاته المتعددة وللفنان طلال في كل محطة ملامح جديدة يقابلها أعين تتفحص وقلوب تتفاعل وأقلام ترصد وتحلل ومع ذلك كان يعود منها بالإعجاب.
معرضه الأقرب..
الصمت في.. البارح
وبمناسبة إقامة الفنان طلال معلا حالياً معرضه (الصمت) في محطته الخليجية البحرين بعد محطات عربية وعالمية نجدها فرصة للتعرف على بعض ما قيل عن الفنان ونبدأ بما جاء في مقدمة البروشور الخاص بالمعرض في قاعة (البارح) بقلم مدير عام القاعة السيدة هيفاء الجشي، التي قالت عن الوجوه التي ملأ بها الفنان طلال القاعة: إن التمعن في أي وجه من وجوهه يستدعي التجربة الكاملة خصوصاً أن الحياة مفعمة بالتأثر تكمن في ملامحها وفي القيم اللونية الذهنية، وطريقته التي تجعل التباين والاتفاق طريقين يمتزجان لتفكيك الوجه من جهة، وإعادة بنائه من جهة أخرى.. مستعيناً بمهارة توليدية للألوان يقوم بتوظيفها للإشارة إلى حالات مكانية وشعرية تنطوي على لغة خاصة تجعله متميزاً بين مجموعة كبيرة من الفنانين.. وتكمل السيدة هيفاء كلمتها قائلة: هذا المعرض استمرار لذاتنا المتمثلة في وجود طلال معلا، وهو دعوة نشاركه بها للتوغل أكثر في وجوهنا، وقراءة السمات الأساسية التي تشي بها أعماله خارج المرآة، وعبر رسالة تنضح بها السمات المفعمة بالهموم والهواجس الإنسانية.
من جانبه كتب د. محمد بن حمودة المفكر التونسي والناقد في الجماليات قراءة مستفيضة استعرض فيها كتابين للفنان طلال معلا الأول بعنوان: أحوال الصورة.. والآخر بعنوان: أوهام الصورة.. أشار فيها إلى أن الفن العربي ما زال يعيش غربة قاسية واستمر الدكتور في تحليله للكتابين مستخلصاً منهما بعض الومضات وقال عن الفنان طلال إنه مهتم بالفعل التوليدي أكثر من اهتمامه باللغة التي تترتب على ذلك التوليد ويشير إلى قول الفنان طلال في أحد تلك الكتب أن بناء حيز إبداعي يكون قادراً على استقبال كل ما يولد مفردات جديدة لمعانٍ جديدة تشكل لغة البصر.
قيل عن الفنان معلا
وكتب عن الفنان طلال معلا الكثير من التحليلات والقراءات لأعماله في كل محطة يتوقف فيها، منها ما قال عنه الناقد أحمد سليمان عند إقامة الفنان طلال معرضه في غوته أن عنوان (صمت) يحيل إلى صدمة جمالية مثيرة، صدمة يحتاجها المتأمل ربما، أو إنها علاقة حميمة بين الواقع والمأمول المفترض هي ذي وجوه تشكيلية تم توزيعها وجعلها متعايشة أزمنة آفلة إلى زمننا هذا،، وجوه تقنع المتأمل بأنها ذات مرجعية وأيضا تخذلنا الوجوه حين نمعن فيها، نكتشف خفايا لم نلحظها لوهلة أولى... هي على هذا النحو أو ذاك ملتبسة، تشبه شخوصاً نعرفهم أو نتعرف عليها في مقبل الأيام.
* ويقول عنه الفنان والناقد محمد الجزائري.. استعان طلال معلا باليوميات الرسمية.. إنه بدون حالات الوجوه مقاربة لزيتياته أو لوحاته الطباعية (الكرافيك) كذلك بالألوان الأخرى، ففي الدفاتر زهد المتخيل فالوجوه مرسومة بماء الحياة كما يحلو له أن يسمي ذلك المنقوع من الديدان التي تتجمع في آنية فخار صغيرة يدعكها فيختلط دمها وعصير جسدها بالماء بعد تحلل الديدان فيصبح المنقوع مخلوطاً مثل الصبغة، ومثل لون الزعفران المعتق أو القهوة المخففة بدرجة البني الفاتح فيغطس قلمه أو ريشته، تماماً مثل الرسام أو الحرفي العربي الإسلامي القديم ومثل الرقاش والمزخرف أو مثل الصيني والياباني في حرفة الرسم، لكنه يرسم هنا ولا يزخرف، ولا ينقل عن الطبيعة أو يرسم عن (ماكيت) أو نموذج، أو (مانيكان)، بل يلقن الورق عافية الاختلاف والتنوع.
طلال معلا يستخرج وجوه ذاكرته لأن الوجوه حكايات ومرايا وأسرار واحتكام (يوثقها) الفنان، مدونات أحاسيس لها تجلياتها في التعبير وقوتها في الخط والاختزال، غنية برغم زهدها فهي تنتمي إلى الفن المتقشف (الفقير).
* أما الكاتب والصحفي الأردني عمر شبانه فيقول عن الفنان طلال: يوم طويل من البؤس والشقاء يقف وراء هذه الوجوه التي لا تكرر نفسها، فكل وجه هو عالم قائم بذاته، ولكل وجه ملامحه وتفاصيله وتعبيراته، فهذا وجه طويل لرجل بعينين بارزتين وأنف عمودي فوق شفتين غليظتين تحيلان إلى القناع الإفريقي، وهناك وجه امرأة بملامح غير واضحة لكن الوجه بخطوطه الحادة أو اللينة تعبير عن مأساة ما.. الوجوه كلها هي تعبير عن هذه المأساة في صورة من صورها، لكن بعض الوجوه يعبر مباشرة وبعضها بأسلوب غير مباشر.. وجوه رمادية وأخرى ترابية اللون، وجه وحيد في اللوحة، ووجوه عدة تتحاور وتتجاور في لوحة أخرى.. لوحة مفردة هنا، ومجموعة لوحات تصل إلى ما يقارب عشرين لوحة صغيرة لوجوه أشخاص بملامح شائهة أو حزينة أو أقرب إلى الكاريكاتورية.
monif@hotmail.com