لا أنسى أبداً تلك الأمسية التي أقامتها وزارة الثقافة والإعلام في الثالث عشر من محرم قبل عامين تكريماً لأديبنا الكبير الأستاذ حمد القاضي. وكان يمكن لذلك الحدث أن يكون عابراً لديّ، كعشرات من حفلات التكريم المكرورة التي حضرتها، بيد أنه في تلك الليلة؛ ووقتما أعطيت الكلمة للمحتفى به، فاجأنا في بداية حديثه بمناجاة آسرة لوالدته عبر إلقاء شجيّ وساحر.. فأمام العشرات من المثقفين والأدباء الذين تقاطروا للحضور حباً في أبي بدر وفي مقدمتهم معالي الوزير السابق إياد مدني، وفي ظل الصمت المطبق الذي ساد قاعة الملك فهد بالرياض، انسكبت دموع أديبنا المرهف حرّى، وهو يناجي والدته تقطعها حشرجات حزينة، ليمضي بعد ذلك في إتمام كلمته، وقد اهتز كل من في المجلس تأثراً بمناجاة الابن البار لأمه..
انحفر ذلك الموقف في ذاكرتي، واستعدته قبل أسبوعين وأنا في طريقي لزيارة منطقة القطيف، وقد استغرقت في قراءة آخر مؤلفات أستاذنا الكبير حمد القاضي (غاب تحت الثرى أحباء قلبي) والذي كتبه وفاء لسبعين شخصية ممن عاصرهم رحلوا عن عالمنا، والحقيقة أن الكتاب أجاب على تساؤلات حيرى ظلت تلوب في نفسي بلا جواب مذ تلك الأمسية؛ تستكنه في صميمها عن مناسبة دمعات أديبنا المرهف في ذلك الموقف، واستحضاره لوالدته يرحمها الله في مناسبة هي بعيدة نوعاً ما، من أن يستحضر سيرتها.
بيد أنني بعد قراءتي الكتاب؛ ألفيت أن تلك الأم العظيمة هي أصلاً حاضرة ومتجذرة في نفس حمد القاضي، والتي هي موجودة في كل صفحات الكتاب، يستدنيها من اللاوعي لديه، حتى وهو يتحدث عن شخصية بعيدة، ولكأنه لا يزال ذلك الطفل ذي الست سنوات- برغم كل سني حياته أمده الله بالإيمان والصحة- الذي يتلفت قلقاً وحائراً يبحث عن أمه التي سافرت ولم تأت بعد..
أديبنا الكبير-الذي تتلمذت على مرافئه، وعلى رفيقة رحلته (المجلة العربية) التي كنا نتسابق لاقتنائها ونحن في المرحلة الثانوية- فقد والدته و لمّا يتجاوز السادسة من عمره، لذلك كان حنانها أشدّ ما يبحث عنه خلال سني حياته، لا سيما في الأوقات الصعبة.. تفرّسوا في سطوره وهو يرثي والده يرحمه الله قائلا: «قبلك - يا أبي- رحلت أمي..وبقي رحيل حنانها حرماناً مقيما بين أضلاعي، لكن لم أدرك وقتها..كنت ابن ست سنوات.. وصدّقت -وقتها- أنها سافرت إلى مكة المكرمة لتحجّ وتأتي لي بهدية..وبعد سنين عرفت أنها لم تسافر إلى مكة بل هي غادرت قلب طفلها إلى دنيا أخرى..فلم تعد-كما قالوا لي- ولم تأت بهدية..!».
في المواقف الكبيرة، وفي انعطافات الحياة ومواسم الفرح والحزن، يتذكر الإنسان دوماً الأقرب إلى قلبه والمتربع فيه، فلا غرو أن تحضر الأغلى بقلب أديبنا الخلوق، كيف وهو يقول عنها وهو يناجيها في كتابه: «حسبك أن تلفظ كلمة الأم فيزهر في قلبك شجر الورد، وينداح في قلبك ندى الحنو والأمان، حسبك عندما تعزفها بشفتيك أن يحلق على مدائنك جناح الحنان»..
وعندما يتحدث عن خالته حصة بنت صالح العليان، لم يفوّت الإشارة إلى والدته، فيقول: «هذه الراحلة العزيزة كانت بحيرة من السماحة، وغيمة من النقاء، لقد كنت ألتقي بها هي وخالتي شقيقتها منيرة أشمّ فيهما رائحة أمي -غفر الله لهما- أحسّ بكثير من السكينة والسعادة وأنا أستمع إلى حديثهما وقصصهما وطرفهما..تلك التي تعيدني إلى طفولتي في عنيزة وإلى حكايات مؤثرة أسمعها عن والدتي ولم أعشها لوفاتها وأنا صغير»..
أديبنا المرهف، هزه وفاة والدة الزميلة والكاتبة فاطمة العتيبي، فانفلت يعزيها وهو يستذكر فقدانه لوالدته، فقال لها: «أيتها العزيزة: عظيمٌ هو فقد الأم..! ولكن أعظم من ذلك الإيمان بقضاء الله وأن ما قدّره سوف يكون، هنا فقط تسكن الطمأنينة جوانح الإنسان، ويستوطن الصبر غرفة قلبه».
بل حتى عندما كتب تأملاته في الرحيل، أفرد مقالة خاصة عن الأم وصدّرها برسالة أمٍّ لولدها، وعقب عليها قائلا: «لقد فرّت دمعة من عيني وأنا أقرؤها متأثرا بها، مستغربا من تأخر ابنها عن زيارتها وهي الأم التي تحمل له كل هذه المشاعر والأحاسيس التي لو توجهت إلى صخر لأذابته» ، ثم يختم بوصية لكل ابن وكل بنت: «ربما تندمون ندماً قاتلاً عندما يرحل آباؤكم وأمهاتكم ويكونون تحت الأرض، وتتمنون وقتها لقاءهم أو البرّ بهم والحنوّ عليهم، ولكنكم لا تقدرون، كيف؛ وهم في باطن الأرض وأنتم فوقها.. برّوا والديكم ..فالدنيا ليست طويلة وكفى..!»
بل حتى عندما يتحدث عن رمضان، يأتي بذكرها، ويقول:»وآه..أتذكر أمي -رحمها الله- وكم تخونني الكلمات وتهزمني رماح الشجن عندما أحاول أن أتذكر رحيلها.. ويزداد ألمي أنني غير قادر على تذكر ملامحها، أو حتى تذكر لحظات رحيلها لصغر سني وقتها لكني أتذكر حنوها علي من خلال الحكايات التي ترويها قريباتي عنها.. وكلما ذكرت تلك القصة التي روتها إحدى خالاتي العزيزات شرقت بالدمعة فهي تجسد حنان الأم الذي لا يعدله حنان، وتمثل إيثارها حتى على نفسها، تقول خالتي: لقد كانت والدتي على فراش الموت الذي فارقت على أثره الدنيا، وكنت بجانبها نائما على جزء من فراشها إثر نوبة برد خفيفة..تقول خالتي العزيزة: وكنا نسألها وهي في أشد حالات المرض عن صحتها-غفر الله لها- تجيب:أنا بخير المهم (ضنيني) حمد يكون بخير..».
حنين حمد القاضي لوالدته ممتدٌ خلال سطور الكتاب، القصة الأخيرة التي سطرت سكنتني، ومن عجيب القدر أنه في طريقي للفندق وقت وصولي القطيف، كان مرافقي الذي أقلني قاضياً بالمنطقة، فسألته عن أعجب موقف رآه خلال عمله، أجابني: يا أبا أسامة، والله لا أنسى موقفاً أبكانا جميعاً نحن القضاة، إذ قبل فترة من الزمن، قام ابن عاق يتعاطى المخدرات، بحرق والديه، عبر سكب البنزين عليهما وإشعال النار، إثر خلاف معهما، وخرجت الأم للشارع والنيران تنهش في جسدها، وهي تصرخ من فرط الألم، وتلقفها السابلة، وقاموا بإنقاذها وأطفأوا النار، وأصيبت هي بحروق خطيرة، ونقلت من فورها للمستشفى، فيما توفي الأب محترقاً على كرسيه، فقد كان مقعداً، ومنعته الإعاقة عن الخروج من المنزل الذي احترق به بالكامل.. وبالطبع ُقبض على الابن، وأصدرنا بحقه حكم الإعدام تعزيراً من هول الجريمة، وفوجئنا بعد أشهر، ويوم تصديق الحكم؛ بدخول الأم وهي تبكي وتلطم وتناشد رئيس المحكمة أن يعفو عن ابنها العاق والقاتل، والقاضي يهدئ من روعها، ويذكرها بما فعله ابنها فيها ووالده من عقوق وإجرام، وبينا نحن في ذلك الحال، إذا بها تزعق وتنفلت تجاه الباب، وترمي نفسها على ولدها الذي أتى وعلى يديه القيد وبين العسكر، وصارت تربت على رأسه وهي تبكي وتقبله وتحضنه وتسأله: هل آذوك يا ابني؟ هل ضربوك؟ هل أكلت جيدا وكيف نمت؟ ونسيت كل الإساءات والعقوق من ذلك الابن..
يخبرني القاضي أن كل من حضر ذلك المشهد دمعت عيناه وبكى من فرط تراجيدية المشهد..
هذه هي الأم وهذه مشاعرها، فهل نلوم أديبنا الكبير، وهو يذكر بها وبفضلها..
وعوداً للكتاب، لا غرو ولا عجب، هذا الوفاء من حمد القاضي لأولئكم الأعلام الذين عاصرهم، فمن يعرف أبا بدر، ليميز الخلق الرفيع فيه، والأدب الجمّ، ولن أعدو الحقيقة إذا قلت بأنه من القلة النادرة في هذا الزمن ممن يُجمع الناس والنخب على اختلاف توجهاتهم على محبته وتقديره واحترامه، وبالتأكيد لم يحز على ذلك إلا بسبب هذه الأخلاق المحمدية التي يتمثلها، فالوفاء تجاه الأموات لا يمكن أن تطالها التهمة والرؤى المستريبة من أولئكم الذين سملت أعينهم الغيرة والحسد، ورمي الآخرين بالظنون السوداء، فهؤلاء أموات رحلوا ومضوا إلى لقاء بارئهم فلا مصالح دنيا يرومها الإنسان من ذكرهم والثناء على مواقفهم، وها أنا أفشي سراً، سيعتب فيه عليّ أستاذي الخلوق حمد القاضي، ذلك عندما شرعت في إعداد مادة كتابي عن أستاذي الراحل د.عبدالقادر طاش، سمع بذلك واتصل بي، وقال: إني طالبك أمراً، فأرجو منك ألا تردني. فهتفت من وهلتي: أبشر، فأنا أتمنى من زمن أن أتشرف بأية خدمة أقدمها لك، لمكانتك في نفسي وتتلمذي على حرفك. فقال لي: سمعت أنك بصدد إصدار كتاب عن أخي عبدالقادر طاش، فأجبته بنعم. فبادرني: ستكرمني إذا تركت نفقات طباعة الكتاب عليّ، فأنا أحب ذلك الرجل، وبيني وبينه مودة وإخاء، ورجائي بألا يعرف أحد بهذا أبداً، وتعدني على ذلك، لأن هذا بيني وبين الله.
ما زلت أتذكر تلك اللحظة التي توقف فيها الزمن، ولم أعد أشعر بالمكان حولي من فرط تأثري بمبادرة الرجل وشروطه، فوافقت، وطبع ذلك الكتاب على حسابه جزاه الله خيراً، وأنا خالفت هنا ما وعدته بعدم ذكري هذا الموقف النبيل له، إلا أنني رأيت أن أذكر هذا في حياته لأدلّل على أن الوفاء الحقيقي الخالص هي خصلة متأصلة في شخصية هذا الرجل النادر..
ميّزت في الكتاب، أيضا حضور العلماء في حياته، فقد بدأ بهم، وذكر مواقفه معهم، وخصوصا الشيخ ابن عثيمين يرحمه الله الذي استطرد في ذكره، ما يعطي تفسيراً لروح المحافظة التي رافقت حرفه، وأنا التلميذ الحريص المتابع، ودفاعه الدائم عن هوية هذه الأمة وأصالتها، بل حتى أنه في عزّ هوجة الحداثة بثمانينيات القرن الفارط؛ نأى ب (المجلة العربية) أن تدخل في أتونها، مع أنها كانت الموضة الأدبية السائدة إذاك.
شكراً يا رجل النبل والوفاء والأخلاق المحمدية على كتابك الذي أبحرنا فيه مع دفقات مشاعرك، ووفائك الأصيل، وأسأل الله أن يجمعك بوالدتك الراحلة التي ذبت حنيناً وشوقاً وحباً لها، وبكل الأعلام الذين ذكرتهم في كتابك، عند مليك مقتدر، بعد طول عمر وحسن عمل وإيمان وعافية..
- جدة
Azizkasem1400@yahoo.com