الذين لا يعرفون محمد العلي عن قرب، والذين لم يطلعوا على ديوانه (مجموعاته الشعرية) الصادر قبل عام بعنوان «لا ماء في الماء»، وكذلك الذين تابعوا انتقاداته المستمرة لبعض شعراء قصيدة النثر في المملكة، سيدهشون حتماً، حين يجدون أنه قد بدأ تجربة كتابة قصيدة النثر منذ عام 1967م، وما زال يعاود ذلك التجريب أو الكتابة حتى اليوم! وقد ضم ديوانه منها عشر قصائد، وحذف واحدة نشرت في كتاب «محمد العلي - مفكراً وشاعراً»، حيث شكل ما نشره منها عددياً نحو 10 % من عناوين قصائده في هذا الديوان.
ومصادر الدهشة عديدة؛ ذلك أنه لم ينشر أي نص منها في الصحف والمجلات، كما أنه لم يقرأ منها شيئا في العشرات من الأمسيات الشعرية التي أحياها أو ساهم فيها، داخل الوطن وخارجه!.. بل إنه لم يكن يتغنى ببعض جملها الشعرية في جلساته الخاصة مع الأصدقاء مثلما يتغنى بقصائده الأخرى من شعر العمود أو التفعيلة. فلماذا يحدث هذا التستّر إذن؟
أتراه يحاول إخفاء نزوات داخلية أو رغبات مكبوتة تنزع إلى ممارسة حرية القول والإنشاء الإبداعي بعيداً عن أي قيد؟
أم أنه، رغم جمالية مغامراته تلك، ما زال يخضع لإكراهات محددات ثقافية أو ذوقية أو نمطية عامة، تقسره على مواراتها في الظل؟
ستبقى هذه الأسئلة مفتوحة، ولنؤجل مقاربتها حتى آخر عتبات كلامنا على تجربته في هذا الحقل، ولنبدأ الآن في قراءة مختصرة لما أبدعه منها.
في هذه الحلقة سنقف أمام نصين (سراب، والكرامة) يسجل ديوانه تاريخ كتابتيهما، كأول اشتغال له في حقل قصيدة النثر الذي يتزامن - تقريباً - مع مرحلة كتابته لقصيدة التفعيلة؛ حيث نرى في النصين محاولة مبكرة للخروج من أُطر الشعرية الغنائية إلى فضاء التأملية، التي تزيح الذات الشاعرة من مركزية النص إلى خلفيته المستترة، كما يمكننا أن نرى انطباق كل مرتكزات التنظير التأسيسي لقصيدة النثر، الذي دونته «سارة برنار»، عليهما وعلى كل قصائده النثرية، (من حيث الكثافة والإيجاز، والوحدة الموضوعية، وقصر النص، والسطوع الذي يعني إضاءة كل كلمة لموقعها تماماً، واللازمنية، فضلاً عن إطراح الموسيقى)، رغم أنه لم يكن قد اطلع على تلك المحددات.
إن كل تلك المرتكزات (ومنها اللازمنية) كانت تكمن في مكان عميق داخل بنيته المعرفية والإبداعية والشخصية أيضاً، حيث تجلت بشكل أكثر وضوحاً في قصائده، حين نرى عنايته الشديدة بتحرير التجربة الشعرية من أسر الزمن، الذي أسمته «سارة برنار» ب (المجانية أو اللازمنية) من أجل أن يبقى النص ساطعاً وعصياً على القيد، وقابلاً وباستمرار للتأمل والتأويل خارج قيد مرجعية الحادثة أو أزمنتها.
وقصيدة «سراب» هي أول قصيدة نثر كتبها الشاعر - بحسب ديوانه - في عام 1967م، حيث يقول مفتتحها:
«فتح عينيه على حديقة
يتدفق فيها السراب
وتغرد الأخيلة
وراح يقطف
حتى امتلأت سلاله بالأوهام»
ولو أن الشاعر توقف هنا أو استمر بتطوير تيمة النص الظاهرة منذ العنوان لقلنا إن أسئلتنا السابقة قد وجدت إجاباتها مبكرة في حكم الشاعر على تجريبه لقصيدة النثر بأنه «سراب»!
ولكن النص ينفتح على فضاءات أخرى، وينزاح بشكل جذري عن تلك المرجعية التي أردنا أن نتوقف أمامها، ليعبر عن اشتغالات جمالية ورؤيوية تتشاكل كثيرا مع انشغالاته في إبداع قصائد التفعيلة، وكأن الحقلين الشعريين يتراسلان معاً في كتابة النص.
«ليس هناك غير الأودية المقفرة
في داخلك
وفي التاريخ
هذا هو الخنجر
الذي تكذّب انغراسه
في خاصرتك
وخاصرة التاريخ»
تقصّد الشاعر هنا أن ينكّر عنوان هذه القصيدة «سراب»، بعدم تقييده ب «أل التعريف»؛ لإطلاق عمومية دلالته الزمنية، التي تجلت في بعض إشاراته إلى أحداثها المتراكمة، والتي بعضها يلد بعضاً، في هذا الأفق العربي الرحب والطويل، حيث يقول:
«تاريخك الدائري منذ القدم
بقي دائرياً
..
...
دائري تاريخك
مثل حلقة مفرغة
حلقة من طغاةٍ
وسيوف جائعة
...إلخ»
أما النص الثاني في هذا السياق فإنه سيوهمنا منذ العنوان «الكرامة» المعرّف «بأل» بأن مدلولاته ستكون أكثر تحديداً من سابقه، سيما وقد بدأ النص بفعل أمر يدل على الترابط بين لحظة كتابة النص وزمنها الحاضر:
«أوسع الدرب لهذا النعش
ولا تدع
الجماهير المسرعة
إلى لا شيء
فرصة النظر إليه».
أي نعشٍ هو وأية مناسبة معينة أو زمن محدد يحيل إليهما الشاعر؟
«إنه نعش الكرامة العربية
التي لا تعرفها الجماهير
لأنها منذ خلقت
لم تعرف إلا الأغلال»!
وهنا سنرى، وبرغم تحديد العنوان بأل التعريف، أن النص قد أخفى معالم ارتباطه بالحدث أو المناسبة، وانتمى إلى ممكنات حرية التأمل و»اللازمنية»، كما في سابقه!
وحين تسترعي انتباهنا بعض مفرداته وجمله الشعرية المباشرة، مثل «الجماهير»، و»نعش الكرامة العربية»، سنتساءل عن سر هذه التقنية الإبداعية ألتي عمدت إلى إخفاء الحدث أو المناسبة المرتبطة بالآني واليومي وبتلك الجماهير، في جلّ قصائد الشاعر في مرحلتي الهجرة الثانية والثالثة؟
أين تلك النبرة الخطابية العالية والمحملة بحرقة الوجدان الجمعي الموجهة إلى هذه الجماهير، في قصائد الهجرة الأولى، من أمثال قصائد «خطيب الجراح التي استعاد فيها ذكرى استشهاد الحسين، وغارة الفجر حين حيا فيها فكر الكندي، وقصيدة مصر يوم حيا مع الجماهير معركتها البطولية في 1956م»، بل وأين موقع شعره من قصائد شعراء التفعيلة العرب، الذين انفعلوا وتفاعلوا مع تلك الزلازل الكبرى التي تعرض لها عالمنا العربي منذ كارثة حرب عام 67 حتى اليوم؟؟
لا شك أن الإجابة عن سؤال عريض كهذا تحتاج إلى مساحة مفتوحة للقراءة المتأنية للوقوف على جذورها، ولكنني سأشير، وباختصار، إلى بعض مرتكزاتها الكامنة فيما يأتي:
1- يمكن أن نقرأ أبرز ملامح الإجابة عن سؤالنا في سياق التحولات الفكرية والسياسية والإبداعية التي عاش شاعرنا في أتون قلقها وأسئلتها وخياراتها الجذرية، حين انحاز بعد مراجعة طويلة لمسيرته وقناعاته الفكرية، من ضفة إلى ضفة، ومن ذائقة إلى نقيضها، فرأى أن إشكالات تخلف عالمنا العربي لا يمكن التعاطي معها عبر الخطاب الوجداني (خطبة عصماء لشيخ، أو قصيدة رنانة لشاعر) أسىً أو طرباً، وإنما تكمن في القراءة العقلانية والرؤية النقدية لذلك التاريخ «الدائري منذ القدم»، بحسب قوله!
ولهذا اختط لانشغالاته الكتابية - بشكل عام - مساراً محدداً ينأى بها عن حالات الارتهان للانفعال «العابر واليومي» حدثاً أو مناسبة، وفق الآتي:
أ- تركيز رؤيته النقدية، في مقالاته ودراساته، على قراءة العمق التاريخي لبنية الثقافة ومركباتها الموروثة، التي أعاقت عبر منظوماتها القيمية حركة التقدم والنهوض في عالمنا العربي في مناحي الحياة كافة، على مدار تاريخه.
ب- رغم احتفاظه المستمر بخصائص الكتابة المكثفة، وسمات التلميح لا التصريح، إلا أنه قد اهتم في كتاباته (اليومية وفي دراساته) بمتابعة بعض تجليات الأحداث الآنية، والإفصاح عن موقفه المباشر منها، فيما ترك لنصه الشعري أن يكون مساحة «لازمنية» يمارس فيها المفكر والمتأمل والطفل لعبة الكتابة ومغامرات الخلق والبوح والانتهاك والتخييل، لتعبر جمالياً عن عمق رؤيته النقدية، وعن تشوفاته للخروج من قيد الضرورة، والبحث عن لحظة الحرية في الكتابة وفي الحياة، حتى لا تفقد القصيدة وهجها الخاص في أتون حرائق المناسبة ومرجعياتها الآنية المختلفة!
2- ما دمنا قريبين من قصيدة «الكرامة» السابقة فسأقف على أحد مظاهر الإجابة عن تساؤلنا فيها، حين تقول:
«الذين يعرفونها (الكرامة العربية)
هم المثقفون
الذين يشبهون الرايات البيضاء
لا تُرى إلا عند الاستسلام»!!
إذن هنا يضع فأسه عند الجذر.. فماذا يمكن أن يقوله هؤلاء المثقفون للجماهير، ومنهم الشعراء، الذين يشبهون استسلام الرايات البيضاء، عبر القصائد الوجدانية أو الحماسية المباشرة، التي لا تعدو كونها إسهاماً في ملهاة الهزيمة، وسياقاتها التاريخية المستمرة؟؟
3- أما النقطة الثالثة في هذا السياق، التي سأتكئ فيها على النصين السابقين، فيمكن تلمسها فيما أسميه ب «جدل ذاكرة النص.. وذاكرة القارئ»، حيث إن نصوص شاعرنا تحفل بالمحرضات الدلالية والجمالية التي تتقاطع في إيحاءاتها - غير المباشرة - مع مشاغل الوجدان الفردي والجمعي، بما يهيئ القارئ «المهتم تحديداً» وذاكرته ليكونا شريكين في قراءة النص وتأمل دلالاته، وإشاراته إلى الحدث الآني.
وفي هذا المنحى (على سبيل التمثيل) سنجد أن الهامش الذي حوى تاريخ كتابة النصين السابقين (سراب -1967م، والكرامة - 1970م) يعين ذاكرة القارئ لأن تغدو شريكاً لذاكرة النصين وقراءتهما على ضوء استعادة آلام هزيمة حزيران 67، ومفارقات رحيل عبد الناصر وتدشين المرحلة الساداتية في عام 1970م، وما ارتبط بهما من تحولات وأوجاع ومخاضات، ما زال العالم العربي يعايش تبعات كل منهما حتى اليوم!!
ويبقى لنا هنا أن نشير إلى أن هذا الهامش، الذي فتح الباب لاشتراك ذاكرة النص وذاكرة القارئ في تشكيل مرجعية القصيدة، يعبِّر عن ملمح مهم وماكر من ملامح الثقافة المكتوبة، واختلافها عن الثقافة الشفوية، حين احتفظ تاريخ كتابة النص المدون في هامش المتن بقدرته على أن يكون أحد مفاتيح قراءة النص وتأويله، فيما كان ذلك المفتاح سيختفي من نص الإبداع الشفوي الذي لن يدون ذلك الهامش!
(وللكلام صلة)
الدمام