تذكرت الروائي الشهير (ألبرتو مورافيا) فقد وجدته فجأة في وجهي، يزور في ذات زمان بعيد مدينة الرياض، فصدمني وجود كاتب شهير، أستن له عالم وفضاء روائي، غرقت في شبابي في قراءاته، وإذا به ينزلق في فضاء ودخان المصانع، ويزور مشاريع الهيئة الملكية لينبع والجبيل وتلك حقيقة، وحينها كنت أقرأ له رواية بطلها (فنان) تشكيلي، يعاني من اضطهاد زوجته الشديد وامتحانها له، حينما تضيع خطوط التماس بينها وبين لوحاته التشكيلية، فتكشف حينها في داخلي عالم فنان (ألبرتو مورافيا) الذي نسيت الآن مع مرور السنين اسم الرواية وبطلها أيضاَ، لكني لم أنس مع مرور الزمن العالم الروائي الكبير، وبسرعة شديدة جداً كانت الزميلة الروائية حسنة القرني، تذكرني به في عالمها الروائي، تسعفها لغة مرنة وعالم جاهز لتمتحنه، فبطلة روايتها فنانة تشكيلية (هاهي ذي نعامتي، بصقة قذرة، تسكن بقايا أوراق قديمة موجعة، وأسئلة وجع للتو تبتدئ، وشح ذاكرة، وغصة خانقة تكاد تثور، ودمعة تخجل عيني من إسقاطها عنوة، لقد عزت روحي عليها فتمنعت، وأشفقت على روحي فتمنعتُ، وخجل خدي من احتضانها كخجلها فتمنعتُ، وما زال بي غصة وبي ألم وبي وجع ولا أحد حولي .. ص19)، فيتضح أن النعام الذي لا يعرف شيئاً، تشكله نذير امرأة بدوية عربية، تهتم بجسدها فالروح عندها مجرد وهم، يؤدي بالإنسان إلى صراع داخلي اجتماعي وسياسي، فجعلت النعام يتناسخ ويتناسل في لوحات فنانة تشكيلية، ويدفن نعامها رأسه والحقيقة في التراب، فتبحث عنه عبر أسئلة حارقة متوالية في حوار مباشر ساخن دافئ ومتعثر، سيطغى على فصول الرواية ذات 170 صفحة في قطع متوسط، لتنتزع حقيقة (غنى) من بقايا جثمان أمٍ ميتة، وستخرج حقيقة (فضيلة) أولى لوحاتها من أوراق أب، نعتها به كذباً، وهو اسم معشوقة صباه، لم يستطع أن يتزوج منها إلى أن اختلط عظمة بتراب الأرض، وتمارس الكاتبة لعبة الفناء الفاحش، بلغة تبعدها عن عالم السرد، وتدنيها من عالم الفلسفة، فلا شيء ينتظم عندها بلا لوحة ليصبح عشوائياً، يسكن على هامش الحياة ؟!
ويتكشف ما بين الوعي واللاوعي، يسري بين مفازة اللوحة ودبيب الكلمات، ويتضح بصورة أكثر شفافية، سرب النعام في إحدى لوحات حسنة بالكلمات في الصورة التالية، حيث لكل إنسان منا شمسان واحدة في السماء والأخرى بداخله، ينفجر المشهد (غنى وعاطف) الفنانة التشكيلية وفتاها الخيال والهاجس وكلام الحكاية..
قبل الخراب.
مات الكلام، مات الضمير،
وشيعت من بعده جثث البشر
بقي النعام وحدهم والدرب طال
زمن الردى أبقى النعام، وما كفاه
وهب الجنان لبعضهم ولبعضهم نشر الردى
وأنا هنا ولم أزل
كنعامة ثكلى تخضب شعرها بالوحل والطين اليباب.
ويحسن أن أبادر إلى القول إن في تجربة حسنة القرني الروائية، تضفير لعوالم مسكوت عنها وغير مرئية، فالذهاب إلى (العقعق) المكان الذي تسلخ أجساد بطلاتها، واللعب بفرشاة المرسم، وتشخيص المتناسلات في فضاء النعام بين عالمين، يصبح لعباً بالكلمات إذ تجوس في داخل شموسها، وتمر عليهن على السطح خارجياً كطهر الملائكة، فالفنان لابد أن يكون مثقفاً ليدرك إشارات اللوحة والكلمة معاً، فربما تتحول الساردة إلى لوحة (هاهو لون العشاق فلهذا خلق لون البنفسج تماماً خُلقت أنتِ لتكوني إنساناً معشوقاً.ص66)، لتضيء الوعي في هذا العالم بين المختلف / المثيل في عالم فني، وتصبح الخطوط خطوات شفافة ورفيعة جداً، وترتفع وتيرة الحوار الطاغي في غياب السرد في بشع عشوائي، ليطغى على جسد الرواية وفصولها، ويستمر استقصاء (ألخطئه) والأديان في أقصى اللوحات، ويدور حول التوزيع غير العادل للقوة والثروة والنفوذ العالمي، ويلف كامل شخوصها في تجريد وغموض لا ينتهي، فالشخوص (اللوحات) لا بد من حوارها الثقافي المتعدد، بلا رابط بين تنوعه في بشع عشوائي، حينما يبقى في وجه ذلك كله تُجار دين يجلدون من لا يشبه ذواتهم المريضة؟!
بشع عشوائي يتمدد فوق جسد الرواية، فلا حدث يتصاعد إذا لم تمعن قراءة قاع اللوحة وجذور الضياع الأولى، فتبرر الأديان والفلسفة لهفة جسد الخطيئة، فلا وطن ولا جنس ولا عرق ولا مكان محدد، تنتمي له شخوص الرواية إلا لون الحب، حينما تحضر خلفيات اللوحة ومقولات معرفية وشعرية، لتحدد بها ملامح حوار وسؤال أحمق وحارق وملح جداً بكل حممه، يتردد بصخب وبشع عشوائي وسطحي، فتبقى اللوحة في مخاضها، تغلف ملطخة ذاتها بالألوان فقد تعبت؟ وهيهات فقد استوى عرش اللوحة قبل معرضٍ، تغيب (غنى) النعامة الضائعة عن موعد افتتاحه، فلا بد أن تعيد ضياع أمها، لتصبح رقما في عداد النعام بلا قيمة، وقد عذب السؤال ذاتها منذ تكشفت الفضيحة في الثامنة من عمرها، الفضيحة التي كشفها عمها (عساف) بأنها ليست ابنة أخيه، لتمضي مع السؤال الذي يتحول إلى علامات (استفهام) تعقب كل جملة حوار إلى النهاية، لعلها تجد (ذات) غنى حقيقة، وتخرج من بين ألوان لوحتها الناقصة..
وفي النهاية: أجزم أني قارئ جيد للرواية المحلية بعمومها، وبالذات ما اصطلح على تسميته نقدياً بالرواية النسوية في بلادنا، وأنا لست ناقداً لكني ضد هذه التسمية، فالرواية رواية يكتبها رجل أم كتبتها امرأة، والرواية العربية بما فيها الرواية المحلية واحدة، بما لها من خصوصيات أولها لغتها، وعالمها وفضاؤها وعمقها التراثي وشخوصها، ولا يجوز تصنيفها وإخراجها من نهر الرواية العربية، لكنها تعكس حياة وعالم وحراك بلدان ومجتمعات تنسب لها، وأجزم مرة أخرى بأني قريب أيضاً من تجربة الروائية، فهذه التجربة الروائية الثانية لها، وكنت قد كتبت عن روايتها الأولى، ذاكرة بلا وشاح في السلسلة الكتابية في عالم السرد، وتعتبر رواية سردية توفر لها مقومات السرد، وأستطيع القول بلا وصاية بأن حسنة ضائعة سردياً هنا، فعلاً في هذا النص كبطلتها، فإذا كانت في بداية الرواية نجحت في خُلق (فكرة) الرواية كرؤية مفترضة، يتسع لها فضاء وعالم فني روائي، يؤلف بين كل مكوناتها لتعرية الأرواح والأجساد بلا مشاهد عري، وحل إيجاد حوار مستمر ومتداع بين الجسد والروح، ترتفع وتيرة كلماته بين شخوص رواية، يحضرون ويغيبون فجأة حسب ما تمليه فكرة ظلت مسيطرة يتحاورون حولها، فإنها حتماً ستفشل في إقناع قارئها، بأنه يجوس بين سطور رواية، ويتلقى مستمتعاً بحوار شخصيات رواية تشخص الواقع، لأن لا نسيج مجتمعي ولا حدث سردي مشترك تنهض به الرواية، ويربط أبطال (العقعق) المكان الذين يلتقون ويلتقين فيه، وتأتي التسمية المكان كرامزة إلى طائر العقعق الذي عرف، بأنه لا يترك نقوداً صغيرة أو مفاتيح مبعثرة قرب النوافذ، فسرعان ما يأخذها هذا الطائر الجميل الأسود الذي يجذبه كل ما يلمع، ولكن إذا كان يقال إن العقعق سارقاً، فذلك أيضاً لأنه يسرق أعشاش الطيور الأخرى، حينما يكتشفها ويقتل كل حي فيها من بيض إلى صغار وحتى الكبار، هكذا نفهم لماذا لا يحبه الفلاحون كثيراً ويصطادونه، بلا شفقة مع أنه يروض بسهولة، ويبني عشه في أعالي الشجر، ويأكل من كل شيء حتى فتات الخبز الذي يترك على حافة النافذة. فمن أين لقارئ رواية بشع عشوائي أن يلم بهذا خارج عالم نسيج السرد الروائي؟، ومن أين له أن يلم بقصيدة الشاعر الكبير / محمد درويش الشهيرة (سقط الحصان) إذا لم يكن قد قرأها، لتأتي مجتزئة من سياقها المعرفي والثقافي والسياسي، لتشكل في النهاية مع جملة مقولات معرفية وفكرية وفلسفية حواراً بين الجسد والروح خارج سياقها، واستحضار حوراً البوذي باليهودي ؟، صعب جداً أن تجد متعة ضرورية في عالماً فنياً، أوحت به الكاتبة في بداية البشع العشوائي، حين يتحول النعام إلى وكر (العقعق) ويصبح زاداً معروضاً بلا شهية وبلا قيمة، مما جعلني أستعيد ما بدأت به هذه السطور عن عالم (ألبرتو مورافيا) الروائي الكبير، فحين تجد كاتباً في فضاء آخر غير ما عرفت، وتوقعت وخارج سياق عالمه الفني، فلا بد أن تجد الصدمة، تماما مثل ما حدث لي في بشع عشوائي التي قرأتها، بلا مبالغة عشر مرات بلا متعة..
الرياض