تأثرتُ بسيرة ومأساة بيتهوفن قبل أن أستمع إلى شيء من موسيقاه وسيمفونياته، كنتُ صغيراً جداً، ربما في المرحلة الابتدائية حين قرأتُ رواية ماجدولين (أو تحت ظلال الزيزفون) تلك القصة المأساوية المكتوبة أساساً بالفرنسية، من تأليف الأديب والصحافي الفرنسي ألفونس كار (1808 - 1890) قبل أن تصل إلينا بالأسلوب الأدبيّ الرفيع لمصطفى لطفي المنفلوطي (1876 - 1924) وأذكر أن كلّ من قرأ الرواية، حين يأتي على ذكرها، فإنه يسهب في التعبير عن الكم الهائل من الحزن في الفصل الخاص بموت ماجدولين وبحث حبيبها إستيفن عنها وبيده المسحاة في (المقبرة) حتى حين ضرب الأرض خيّل له أنه قتل حبيبته مرتين فخرجت جثامين الموتى تحيط به وتلعنه..
ذلك الفصل كان الأكثر تأثيراً عند كل من عرفته من قرّاء تلك الرواية، بينما كان تأثري الأكبر بالفصل الخاص بالحكاية التي سردها إستيفن عن مأساة (بيتهوفن) قبل أن يعزف لحنه الأخير (لحن الموت) ويموت..
تعرضتُ لسخرياتٍ مخجلة، في ذلك الزمن، حين كنتُ أذهبُ إلى محلات بيع (أشرطة الكاسيت) بمكة المكرمة أسأل عن موسيقى بيتهوفن، فبعض الباعة يقول (بيت مين)؟! وبعضهم (بيت إيش)؟! ولم أتمكن من الحصول، في تلك المرحلة، على تلك الأعمال الخالدة حتى نسيت الأمر عدة سنوات ثم تذكرته وأنا أستمع إلى نغمات بيانو صاخبة في أحد فنادق القاهرة (كان ذلك قبل أن نعرف الأقراص المدمجة والإنترنت) فعرفتُ موسيقى بيتهوفن وشُغفتُ بها حدّ الهوس.. لم أترك مقطوعة أو سيمفونية له إلا واقتنيتها..
أولُ أسباب حبي لبيتهوفن هو ما قرأته في رواية (ماجدولين) عنه، ولكنّ الغريب أن كلّ ما قرأته عن بيتهوفن بعد ذلك لم يكن متطابقاً تمام التطابق مع ما جاء في الرواية!
ففي رواية ماجدولين أن بيتهوفن كان في (مظلمة فادحة) وكان الحساد يضطهدونه حتى عزلوه عن الحياة العامة فأصابه الصمم اكتئاباً، وكان وحيداً، وفقيراً.. وهذا كله صحيح.. ولكنّ في الرواية أيضاً أنه: كان شريداً طريداً يجوبُ البراري دون أكل لعدة أيام حتى يعثر عليه صديقه الوحيد (هومل) فيسعفه بشيء من طعام يبقي على حياته البائسة..
بينما في كل التراجم والمقالات والأفلام الوثائقية التي طالعتها عن سيرة بيتهوفن لم أجد شيئاً عن الجوع والتيه، بل على العكس كانت تشير إلى أنه عاش عزيزاً - وإن كان فقيراً - ومات عملاقاً شيّعه عشرون ألفاً من تلامذته ومحبيه إلى مثواه الأخير..
أما في رواية ماجدولين فحكاية موت بيتهوفن تبكي الصخر وتفتته ألماً وحسرة على هذا العبقريّ التعيس، إذ يطرقُ باباً في غربةٍ متهالكاً من الإعياء، فيشفق عليه صاحبُ الدار ويطعمه ويحسن إليه، ثم تتسلى العائلة بعزف مقطوعة موسيقية لم يستطع بيتهوفن اكتشاف ماهيتها لصممه، ولكنه يراهم متأثرين بها فيطلب من سيد البيت أن يمنحه فرصة إلقاء نظرة على (النوتة) إذ يكتشف أن اللحن له، وموقع باسمه، فيخبرهم أنه هو (بيتهوفن) مؤلف هذا اللحن، فتنحني العائلة كلها إجلالاً له وتقديراً لعظمته وعبقريته الموسيقية فيكون ذلك هو التكريم الأول والأخير الذي يحصل عليه بيتهوفن ويموت..
وفي موته لم يقف على قبره غير أفراد تلك العائلة الصغيرة، وصديقه (هومل) فقط، كما جاء في رواية ماجدولين..
أما ما تتناقله الكتب الكثيرة عن بيتهوفن فغير ذلك تماماً، ولكني لم أستطع - حتى اللحظة - التخلص من تأثير ما قرأته صغيراً عن بيتهوفن ومأساته، حتى أنني في كل مرة أستمع إلى موسيقاه في بهو فندق من الفنادق الفاخرة أردد في نفسي: كأنما قدر بيتهوفن أن يعيش فقيراً ويموت معدماً غريباً، ثم تصبح موسيقاه، منذ رحيله (1827) وحتى أيامنا هذه - وستظلّ - سمةً ملازمة لقاعات الفنادق الفاخرة والأماكن المترفة!
ذكّرني الآن بذلك كله، استماعي العابر إلى إحدى المعزوفات التي ألّفها بيتهوفن على البيانو (أظنها السوناتا الرابعة عشرة، المشهورة بضوء القمر) في بهو أحد الفنادق الفخمة في إحدى المدن العربية، فراودتني نفسي أن أميل إلى موظف الاستقبال، بوصفه المتحكم في جهاز التسجيل الذي يبث تلك الموسيقى الناعمة أسأله إن كان يعرف عنوان المعزوفة؟ فقال لي الرجل - بكل ثقة - رداً على تساؤلي: (هذه موسيقى خاصة بالفندق)!
وتبقى الحيرة تشغلني كلما استمعتُ إلى شيء من تلك الأعمال الخالدة لذلك الألمانيّ (الكونيّ) العظيم: هل ما جاء في رواية ماجدولين عن مأساة بيتهوفن في أيامه الأخيرة كان صحيحاً؟ وهل المنفلوطي نقل ذلك كما هو -من دون إضافات ومبالغات- كما كتبه ألفونس كار في القصة الأصلية؟؟
قبل أيام قليلة كنتُ أتحدث مع أحد الأصدقاء من الأدباء المهتمين بكلاسيكيات الأدب الفرنسي وسألته إن كان قرأ قصة (تحت ظلال الزيزفون) بلغتها الأصلية لألفونس كار، فقال لي: إنها ليست سوى قصة في حلقات على شكل مجموعة رسائل متبادلة بين ماجدولين وإستيفن، نقلت حرفياً إلى العربية حتى يعيد صياغتها مصطفى لطفي المنفلوطي، وأن معظم ما جاء بقلم المنفلوطي في رواية (ماجدولين) هو من تأليفه وخياله!
نعم هذا مؤكد، فالمنفلوطي أديبٌ عربيّ بارعٌ وليس ناقلاً - فهو لا يجيد غير العربية - كما أنه لم يكن مجرد محرر يعيد الصياغة وحسب.. لهذا كانت (السيرة) التي قرأتها عن بيتهوفن في رواية ماجدولين مؤثرة لدرجة أشعر معها أنها هي الحقيقة المغيّبة، فدائماً هو التاريخُ يختصر الأشياء الكبيرة الغامضة، ويضخّم الأشياء العادية المكرّسة، ويبتسر الأحداث والوقائع.. بينما الأدب الحقيقيّ هو الشاهد على كلّ العصور؛ لذا وثقتُ بما وضعه المنفلوطي، وصدّقتُ سيرة بيتهوفن كما كتبها المنفلوطي.. فقط!
الرياض
ffnff69@hotmail.com