كاد هذا القياس أن يخفت وهجه ويخبو بريقه ومن ثم يفقد اعتباره على صعيد نحت قوالب تقنيات التدليل وذلك عطفا على التصاعد التدريجي لمستوى انخفاض سقف تلألئه والتنامي المتزايد لأفول نجمه بفعل زخم من المطارحات الفلسفية التي تمتد أخطبوطيا ولاتفتأ تروج لتأسيس مبلورات المحو لقيمته اليقينية وبالتالي تصميته، أي لفه بالسكون، عزله، إبقاؤه في دائرة الظل ومصادرة أحقيته في أن تكون له حقيقة، الشأن الذي قاد أجهزة الرصد التيمية إلى إعادة الاعتبار إلى أبعاده المعهودة - بعد أن كاد يفقد أوراق اعتماده ويعود أدراجه حيث زوايا التهميش في ظل فضاء الأبستيمية المتحكمة في مفاصل النظام المرجعي آنئذ والرافضة بطبيعتها لكل انبثاقة أولى قد تشرعن لإرهاصات صوت خلاصي - من خلال مكاشفة بنيته ومناقشة بنوده الإجرائية مناقشة مستوفاة نسفت على إثرها الحكم التقريري بظنيته المدعاة وأعادت له هيبته المفقودة ومحوريته اللافتة في مجال إقامة الأحكام مجلية مدى شساعة أكنافه وما يختزنه في أغوار تخّومه من عمق إثرائي وقوة دلالية تعلي من شأنه على مستوى الحجية.
غياب العدة المفهومية هنا حال دون الانخراط في وعي ممنهج لمادة ذلك القياس التمثيلي الذي هو"إلحاق الشيء بنظيره"(الفتاوى9-259) الشأن الذي آل إلى خلق شبكة من المحاذير المنهجية على مستوى التأصيل ناهيك عن التطبيق حيث ثمة من يتعاطى هذا القياس فتارة يجريه في غير سياقه وتارة يجري نفيه حيث يتعين إجراؤه!.وهذا هو عينه بالضبط ما يقصده ابن تيمية عندما قال:"والغلط في القياس يقع من تشبيه الشيء بخلافه وأخذ القضية الكلية باعتبار القدر المشترك من غير تمييز بين نوعيها، فهذا هو القياس الفاسد كقياس الذين قالوا:إنما البيع مثل الربا"(المجموع 6-299).
ابن تيمية حينما يجوب ممرات المنطق ويتوغل في سراديبه ويطوف ردهاته ويتجول في دروبه لا ينبعث من منحى توصيفي أومن زاوية الرصد الكرونولوجي فحسب وإنما من منطلق تطبيبي، تحليلي، من خلال تقييمه ومن ثم تقويمه بالتنقيب في أقبيته ومساءلة المتاهات الملغزة والحفرفي الخواء والتفتيش عن اللامُقال في القول المنطقي كما هو الحال مثلاُ في آلية التعاطي مع هذاالقياس والذي هو في المنظور التيمي يحتوي على الاستقراء بقياس أفراد أو أعيان النوع الواحد بعضهم على بعض ولذلك يقرر أن:
"سائر القضايا التجريبية كالعلم بأن الخبز مشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية إنما هو بواسطة قياس التمثيل".
وفي مكان تال يجلي تناقض المناطقة فيقرر قائلا:"حكم الشيء حكم مثله فيقال هنا استدلالا بقياس التمثيل وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن فإذا كانوا علموا القضية الكلية بقياس التمثيل (الذي يقطعون بانتفاء يقينيته!) رجعوا (إشارة لتناقضهم) في اليقين إلى ما(الاسم الوصول المشترك يعود إلى قياس التمثيل)يقولون إنه لايفيد إلا الظن"(الرد على المنطقيين 1-192،127).
أيضا ينطوي قياس التمثيل الذي يحظى بقيمة اعتبارية على الصعيد الشرعي على قياس الفرع على أصله ومن ثم الاستحالة بالضرورة العقلية نحو لازمهما وهو المشترك والانتقال بالتالي بمقتضى متتاليات التتابع الإجرائي إلى لازم اللازم وهو الحكم، أو ما يسميه المناطقة لازم المشترك وهوما ينعت بالقضية الكبرى ثم مباشرة تقرير إثبات هذا اللازم للملزوم الأول المعين.
طبعا قياس الفرع على أصله هو ما يجري نعته بأنه قياس العلة، وهذا القياس يقوم على الوصف المشترك الجامع بين الفرع والأصل بحسب مستلزما للحكم، وهو يقيني أيضا إذا جرى مراعاة اشتراطاته ومنها، عدم وجود الفرق المؤثر، يقرر ابن تيمية أنه:" إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم كان هذا دليلا في جميع العلوم" كما يقرر في المقبوس التالي:"أن القياس حيث قام الدليل على أن الجامع مناط الحكم، أو على إلغاء الفارق بين الأصل والفرع فهو قياس صحيح، ودليل صحيح في أي شيء كان"انظر(الرد على المنطقيين 1-129).
يدلف أيضا في حقل قياس التمثيل قياس النوع على نوع آخر لتموضع قدر عال من الشبه بينهما وهو يقيني في العرف التيمي أيضا وذلك في حال مراعاة اشتراطاته وأخذها في عين الاعتبار؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة الشيء إلا بالتعريف عنه أو ذكر ما يمت له بوشيجة أو ما يتقاطع معه بشَبه حيث:"الشيء لا يتصور إلا بنفسه أو بنظيره"(الرد على المنطقيين 1-78) وتحديده مرهون ب"تعريف عينه أو بذكر ما يشبهه"(الرد على المنطقيين1-80) و"من لم يعرفه (يقصد الشيء) فإنما يعرّف به إذا عرف ما يشبهه، ولو من بعض الوجوه، فيؤلف له من الصفات المشتبهة المشتركة بينه وبين غيره، وما يخص المعرّف، ومن تدبر هذا وجد حقيقته" (الرد على المنطقيين 1-81).
قياس التمثيل في الوعي التيمي يعتبرأبلغ من حيث إفادة العلم ومدّنا باليقينية من قياس الشمول- كقول مؤلف من قضايا إذا سُلمت لزم عنها لذاتها قول آخر وهومتداول عند المناطقة ويعرفه ابن تيمية بأنه"إدخال الشيء تحت حكم المعنى العام الذي يشمله"(الفتاوى9-259)-؛لأنه ينهض على إستراتيجية تقعيدية ذات منزع ثبوتي يتعالى على التحوير وهي أن (حكم الشيء حكم مثيله) (الرد على المنطقيين 1-127).
ويقرر أنه:"إذا حكم على مثله بنقيض حكمه كان كما لو حكم عليه بنقيض حكمه" انظر(درءالتعارض1-174).
ويشبه ابن تيمية قياس التمثيل- المتمثل في إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما، وهو متداول عند المتكلمين وعلماء أصول الفقه- في سياق تقريره لأولويته وتوكيد ما يتبوؤه من سلطة دلالية في القياس العقلي بأنه:"كالبصرفي العلم الحسي وقياس الشمول كالسمع في العلم الحسي ولا ريب أن البصر أعظم وأكمل"(نقض المنطق ص165).
إن التسوية والفرق شأن مركوز في الجِبلات وإسقاط التفريق على ما هو خليق بعدمه لا يقل إثما منهجيا عن إجراء المشاكلة في فضاء قمين بتموقع خصوصيات الوجه النقيض المغيبة إذ توحيد العصي على التوحد انتهاك منهك لفروقاته،وكلاهما ليس إلا انعكاسا لوعي تآكلت قدرته على المعاينة،والأداة الإدراكية تعي بداهة التسوية بين المحكومين بقيمة المضارعة فلا تجري على أحدهما حكما يفارق به نظيره ما لم يتوفر على خصوصية توجب اختصاصه وتمده بامتياز يحيله إلى التعالي عن مساواة سواه، كإفراز طبيعي لعدم تموقع مقتضى ذلك،وكذلك أيضا فالعقل الذي يحظى بمادة متألقة يتقن في التفريق بين ماينتظمهما ضرب من التغاير وقد قرر (الرازي) في محصوله أن:"حكم الشيء حكم مثله عقلا وشرعا وعرفا"(2-572) وكذا (الشوكاني) أومأ في إشارة عرضية إلى أن:"المتماثلان يجب اشتراكهما فيما يجوزعليهما لأن حكم الشيء حكم مثله" انظر(ارشاد الفحول 1-378) أما التفريق بين ما ينتظمان في سياق تماثلي فإن هذا ضرب من" طلب ما لا حقيقة له" انظر(الرد على المنطقيين 1-54).
ومن هنا يتعاطى ابن تيمية مع هذا القياس بحسبه الأصل الحقيقي لقياس الشمول - وإذا كان الأمر كذلك فكيف يُجعل الأصل ظنيا بينما الفرع يُرحل - بعد احتضانه بالتهليل - صوب مدارات اليقين!- ويُعزى هذا في نظره إلى أن ثمة قضية كلية يستند عليها قياس الشمول وليس ثمة من سبيل للنفاذ نحو تلك القضية الكلية إلاقياس التمثيل ولذلك يقرر ابن تيمية أن:"العلم بتلك القضية الكلية لابد له من سبب فإن عرفوها باعتبارالغائب بالشاهد..كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة علمنا أن النار الغائبة محرقة لأنها مثلها وحكم الشيء حكم مثله فيقال:هذا استدلال بقياس التمثيل.وهم (يقصد المناطقة) يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن فإذا كانوا علموا القضية الكلية بقياس التمثيل رجعوا في اليقين إلى ما يقولون:إنه لا يفيد إلا الظن"(الرد على المنطقيين 1-236).
ابن تيمية يسوي بين القياسين: التمثيلي والشمولي في بؤرة من بؤر التلاقي الصميمي ويقرر أن:"حقيقة أحدهما هي حقيقة الآخر"(الرد على المنطقيين 1-240). ويقرر أيضا في معرض نفي انتقائية العلاقة البينية أنه:"حيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي"(الرد على المنطقيين 241).
وكذلك يقرر أن:" هذا هو هذا في الحقيقة وإنما يختلفان في تصوير الدليل ونظمه وإلا فالحقيقة التي صار بها دليلا- وهو أنه مستلزم للمدلول - حقيقة واحدة"(الرد على المنطقيين 247).
ويقرر في مواضع كثيرة أن ثمة نمطا تلازميا يسم المنحى العلائقي بينهما في الصميم:"وأن ما حصل بأحدهما من علم أو ظن حصل بالآخر مثله إذا كانت المادة واحدة(أي في يقينيتها أوظنيتها)،والاعتباربمادة العلم (ويقصد بالعلم القياس) لا بصورة القضية"(أي سواء كانت صورة القياس اقترانيا أو استثنائيا فالأمر سيان) انظر(الرد على المنطقيين1-201).
إذاً فالحقيقة واحدة والعبرة بالمادة لا بالصورية فهو يكون يقينيا متى ما كانت أدواته كذلك. يقول ابن تيمية في هذاالمساق:" إن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء وإنما يختلف اليقين والظن بحسب المواد فالمادة العينية إن كانت يقينية في أحدهما كانت يقينية في الآخر، وإن كانت ظنية في أحدهما كانت ظنية في الآخر"(الرد على المنطقيين 1-128).
ويؤكد أنه:" حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين" (الرد على المنطقيين 1-368).
ويؤكد أن:"قياس التمثيل الصحيح أولى بإفادة المطلوب - علما كان أو ظنا- من مجرد قياس الشمول ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون بقياس التمثيل أكثر مما يستدلون بقياس الشمول"(الرد على المنطقيين1-229).
ويقرر أيضا أن العلم الذي يتاح استيحاؤه من قياس الشمول يقرر أن ذلك ليس محصورا عليه، بل الأمر متاح كذلك عن طريق:" قياس التمثيل الذي يستضعفونه"(الرد على المنطقيين 298). ويقصد ابن تيمية بقوله:"يستضعفونه"أي يحسمون القول بظنيته ويصادرون عبر تراكم تنظيري أمتناه مبلورات اليقينية غيرعابئين بما ينطوي عليه من قيمة دلالية فارهة.
ثمة من يجنح صوب حصر قياس التمثيل في حقل الشرعيات فحسب وينفيه في مجال العقليات وقد أومأ ابن تيمية إلى خطل ذلك التوجه الذي فقد جذرية وشائجه بالحقيقة وجلى مكامن مصادمته لقول جمهور نظار المسلمين، بل ولذلك الخط المنهجي المتداول لدى عامة أولي النهى ويقرر:" أن قياس التمثيل يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات فإنه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم كان هذا دليلا في جميع العلوم وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر كان هذا دليلا في جميع العلوم..وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزما للحكم"(الرد على المنطقيين 241)
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة