فتنة القول تكرَّرت في الأدبيات الإسلامية والتراث العربي عمومًا، ربما كان المفهوم منها واضحًا، والمواضيع التي تندرج تحتها واضحة كذلك؛ فمن الجلي أنها ترتبط بالجدلي جدا من المحرم الديني أو الاجتماعي أو السياسي، وإن غلبت أحد هذه المحرمات على غيرها في مدى الارتباط بها.
فلماذا هي فتنة القول وليس العكس؟ بمعنى إذا كان الموضوع هو المحرم لماذا لم يكن هو الفتنة فتنعكس الكلمتان إلى القول في الفتنة؟ أليس في هذا إشارة إلى أن المحرمات في الفكر الإسلامي والعربي سواء على مستوى التراث أو على مستوى الواقع اليوم هي ليست في الفعل أو السلوك وإنما في القول، وأن الذي من الممكن أن يثير فتنة وحربا ليس خرق الحدود بالأفعال إنما بالأقوال؟ وربما كان في لفظة التابوهات المترجمة دلالة أوضح؛ فهي تعني المحظور من القول لا المحظور من الفعل، بينما في لفظ المحرمات التباس واضح بين الحرام المفردة الدينية التي تحكم بحرمة أفعال محددة دون أن تحكم بأي حرمة لأي قول، بينما كان الحكم في الكلام هو النهي ليس إلا، والفرق ما بين التحريم والنهي يتضح من أن الانتهاء اختيار ذاتي؛ فهو امتناع من داخل الفرد حيث يقال انتهيتُ من الكلام أو انتهيتُ عن الطعام، بينما في التحريم الامتناع يكون لأمر خارج عن الذات لا من داخلها، فيقال حرم نعمة البصر أو حرم نعمة الكلام، ولعل في الأحاديث النبوية فصاحة اللسان العربي، فأن يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «امرأة حرمت قطتها..»، غير أن ينهى بقوله «لا تسبوا الدهر». وبقطع النظر إن كان الفرق ما بين التحريم والنهي هو الامتناع من داخل الذات أو من خارجها فإنه من المتفق عليه أن درجة الامتناع والشدة تختلف بين المفردتين، والسؤال: كيف تحول الحرام من الأفعال إلى الأقوال؟ ولماذا خسر النهي حكمه في القول وكسبه التحريم؟ كيف انتقل الحد من الفعل إلى الرأي؟ وكيف تحولت المجاهرة بالذنب إلى ذنوب الجهر، فصار الجهر بذاته ذنبا لمجرد كونه قولا؟ أليست المجاهرة بالذنب ترتكز على أن الفعل المشين ليس لصاحبه أن يتباهى به، بمعنى أن الحرمة والصفة المشينة هي في الفعل أصلا لذلك كان النهي عن القول فيه لا العكس، تماما كما في فتنة القول صار القول لذاته هو الفتنة؟..
والإشارة هنا إلى أن الكلام يأخذ منا أكثر مما يأخذ الفعل، وهو ما يردده ويعرفه الجميع أو الأغلب سواء في قناعة الشعوب بأن حكوماتها لا تجيد إلا القول على المستوى العام أو في قناعة القصيمي المثيرة بأن العرب ظاهرة صوتية على مستوى الثقافي، وإذا ما كانت النتيجة واحدة ومدركة للجميع فليس يعني أن الأسباب في ذلك واحدة أيضا؛ فعند تحليل اللغة التي تزداد الدراسات المعرفية في التأكيد حول قدرتها على التأثير في الإنسان عقليا أي على مستوى التفكير ومن ثم على مستوى الإحساس والسلوك تباعا، عند تحليلها يتضح كيف تتركز اللغة العربية في تركيب الكلام أو في معانيه على قيمة القول مما يظهر به الأثر الإيجابي والسلبي للغة على التفكير ومدى قدرتها على التحكم فيه، وفتنة القول دليل ذلك، والقول المباح دليل آخر، فالذي يتكرر على السمع بأن ثمة قولا مباحا، يتكرر في الفَهْم على المعنى العكسي، وهو وجود القول غير المباح أو المحظور؛ لأن الحكم على أمر بأنه حلال يفيد بأن هنالك حكما يقابله هو الحرام، وهذا جميعه مفهوم على مستوى التفكير واللغة على السواء.
والسلوك والفعل رغم أنه يبدو مرتبطا بفكر الإنسان إلا أنه ارتباط غير مباشر في الأغلب؛ حيث إن الفرد من الممكن أن يعتاد أفعالا معينة يكررها باستمرار دون أن يكون من ورائها فكرة محددة يؤمن بها، بينما ترتبط الأقوال مباشرة بالتفكير سواء كانت الفكرة من وراء القول واعية أو غير واعية، وفي التركيز على الأقوال المحرمة والكلام المحظور سواء على المستوى الاجتماعي العام أو على المستوى الثقافي دليل على أن الخطر الذي يتمثل في أذهاننا هو التفكير لا العمل؛ ولهذا تأخذ بعض الآراء على بساطتها جدلا أوسع وأعلى من كثير من السلوكيات التي تفوقها في خرق القواعد، ولذلك أيضا تبدو معظم الإنتاجيات العملية على مستوى الحياد في التفكير، بينما قد لا يوجد رأي ما يلتزم نحوه بالتفكير الحيادي، وعلى هذا الأساس تأخذ التيارات على المستوى المحلي شهرتها وحضورها الجدلي رغم أنها لا تنعكس فعليا على واقعها بإنتاج عملي يمثلها فكريا، وعلى هذا أيضا يحاول أصحاب الدعوات الفكرية والأيديولوجية إقناع متلقيهم بأن السلوك لا يهم؛ فمن الممكن أن يتغير بسهولة وبسرعة بينما عليهم أن يحافظوا على تفكيرهم فهو الأهم؛ لأنهم حتما يدركون أن الفكر قد يتحوّل إلى سلوك بلحظة واحدة، بينما السلوك لا ينعكس على الفكر بوصفه دعوة أو أيديولوجية محددة أبدا، وإن كان يؤثر على التفكير كأنماط عامة لا تخص الفكر الأيديولوجي الخاص كالديني أو القومي مثلا..
ولعله من الإمكان أيضا القول إن التركيز على الخطاب ونقده وتحليله سواء كان خطابا دينيا أو ثقافيا أو سياسيا هو إشارة أخرى إلى أهمية اللغة في الفكر وأثر تراكيب لغوية مثل فتنة القول على التفكير، ذلك الأثر الذي قد لا ندرك حجمه رغم أننا لا نتحرك إلا تحت ظله.
Lamai.swm@gmail.com
الرياض