وعوداً على المعيقل الذي لم يتغلب على أسر إعجابه بشعر العروي، فأعاد تقديمه في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، مما يدل على إدراكه لتفرد هذا الشاعر، وممكن مغايرة قصيدته للسياق العام في الشعر السعودي فقال: (وكذلك حسين العروي الذي بعث القصيدة التناظرية حية كما لم يبعثها شاعر سعودي من قبل، ويذكرنا صوته ونبرة الأنا المزهوة بذاتها، ولغته بفخامتها وروائها الكلاسيكي بشعراء كبار للقصيدة العربية، وبالمتنبي خاصة.
ولعل التحدي الكبير الذي يواجه العروي، هو ما إذا كان قادراً على مواصلة تفرده ضمن هذا الشكل الكلاسيكي الذي يبدو وكأن الشاعر نذر نفسه له)(21)
وإذا كانت قصيدة العروي تضعه حقاً ضمن الكبار، فإنني استرجع هذا المستوى التمييزي المطلق، إلى موضوعه في سياق الشعر في المدينة المنورة في العصر الحديث، فبوسعنا أن نعد الشعر في المدينة في محوره الزمني الذي نقاربه من خلاله العصر الحديث، في الإطار الكلاسيكي.
وفي داخل هذا المجال الفني بأنظمته وفضائه الموضوعاتي والدلالي والجمالي، يمكننا حصر شعرائه. إلى أن ظهرت المجموعة الأولى للعروي « لم السفر « فبظهور هذه التجربة. وبالغذامي وبدونه وبغيره. فإن تجربة العروي، تعد تحولاً في مسيرة الكتابة الشعرية. وفي الكلاسيكية التي يرى المعيقل أن العروي قد بعثها، وأرى أنها كلاسيكية الشكل الذي يكتب فيه العروي، ولذلك عدّها المعيقل بالتناظرية. وهي إن شئنا تحديداً دقيقاً لها تناظرية وليست كلاسيكية. فللكلاسيكية نظامها البنائي ومجالها الجمالي، ولها تعبيراتها. و قصيدة العروي. سواء في بنائها أوقيمها النصية والأسلوبية ومضمونها الدلالي تختلف عن الكلاسيكية. وفقاً لناقد آخر قرأ هذه التجربة بعمق سنعرض له لاحقاً.
- وعوداً على نقاد العروي، نتوقف عند الناقد الدكتور حسن الهويمل، وقد كان الغذامي كذلك سبباً أو موجهاً لاهتمام الهويمل بشعر العروي.
فقد جاءت الحلقات التي كتبها الغذامي عن العروي في حمأة السجال بين الغذامي والهويمل في تلك الفترة الزمنية. وإذا كان الناقدان الغذامي والهويمل مختلفين في مواقف ورؤىً كثيرة ؛ فإن شعر العروي لديهما كان من المتفق عليه.
فالهويمل كان يتابع -كما يقول- ما كتبه الغذامي عن العروي بحذر شديد، لأن الغذامي ( إذا أحب أسرف في الحب، وإذا كره أسرف في الكره )(22)، ثم يؤكد اختلافه مع منهج الغذامي وأدواته في قراءة شعر العروي، فيقول: (..أنا واثق أن حسين العروي يكاد ينكر نفسه حين يقرأ قول الغذامي عن شعره... أجمل ما في نقد الغذامي في حلقته الرابعة وهو نقد – أعني المختار – لا يمت إلى البنيوية بصلة، وهو في الوقت نفسه، من أجمل ما عند العروي قوله :
وإذا فإن حي0اته كلها تتجه نحو فرصة واحدة وهي:
فرصة ممطرة أطلبها ربما أزرع فيها وطني)( 23 )
فالهويمل، وإن أثبت للغذامي في هذا السياق، إسرافه في الحب والكره، وجزم بإنكار العروي لنفسه حين يقرأ قول الغذامي، ونفى أن يكون البنيوية منهجاً تعاطى معه الغذامي بشكل صحيح، فإنه ينتهي إلى أن (الشاعر العروي يمتاز بأنه شاعر المجاز والخيال، يرحل بالكلمة وبالتركيب بعيداً عن السائد...) (24)
ولكي يوفي حذره من كتابة الغذامي شروطه قال بعد ذلك: (..وإذا استحضر هذا الهم حول بعض الأداء إلى صناعة لفظية متكلفة ومستهجنة، تنم عن تعمل بل عن إسراف في التعمل ومحاولة الشاعر تفريغ الكلمة من دلالتها السائدة، أغرت به ناقداً بنيوياً، يهمه هذا اللون من الشعر..) (24). وكان قد شهد للغذامي في ثنايا تلك المقالة بأنه (يمتلك أدواتاً نقدية متفوقة ويمتلك مع ذلك لغة سلسلة وذائقة دقيقة..) (25)
ولا نعلم بأي مقياس نظر الهويمل إلى اهتمام الغذامي بشعر العروي، بذائقته الدقيقة وأدواته المتفوقة، أم ببحثه عن نص يطبق من خلاله نقده البنيوي.
وأظن الهويمل أراد التخفف من قيمة التسليم لزميله اللدود بتميز الذائقة وحسن الاختيار وتفوق الأدوات، فختم مقالته بقوله: (..وشاعر كالعروي مارس التجاوز في وقت مبكر من حياته، يستحق منا الإكبار والتقدير، ولكنه قبل ذلك. يستحق واقعية النقد لكيلا يعميه الثناء وينفخه التطبيل الفارغ) (26)
إذن فمهما حاول الهويمل عدم التسليم بموافقة زميله بتفوق هذه التجربة، ونزعتها إلى الاختلاف والتميز، فهو يبطِّن موافقته له بذلك، بما يراه واقعية نقدية وموضوعية في الدرس و التحليل. وصولاً إلى نتائج ذات مصداقية بحسب رؤيته.
- ومن نقاد العروي الدكتور محمد يوسف. الذي كتب مقالة قصيرة بعنوان « العروي ينحت من صخر « فيها من الطرافة والعمومية وزخم الإعجاب والافتتان بشعر الشاعر، أكثر مما فيها من التقصي والتحليل، يقول (إنها عشرة أبيات فقط. تقطع الأنفاس. وتقصم الظهر، ولا تخرج منها بعد العناء إلا بالقليل، حقاً إنه شاعر متفرد، ومعجمه الشعري خاص جداً. بضاعة متميزة لا يضيرها ارتفاع السعر، فعملاؤها من عالية القوم ومن خاصة الخاصة، بالرغم من اتباعه لمألوف القصيدة الكلاسيكي) (27)
فتكييف إعجاب الناقد بتلك القصيدة، يتخذ منزلة يكاد يتفق عليها جميع نقاد تجربة العروي.
وهي اختلافه وكلاسيكيته. وطريقة تعبير الناقد عن ذلك الإعجاب، وإن اتخذ هذا التعبير الطريف فهو يتسق مع حكم عام، وإن كان يلقي بالكلاسيكية كإطار لشكل النص ،فهو يعي اختلافها وفرادتها. وإن كان بدون إثبات لمواطن ذلك التفرد وذلك الاختلاف.
فهو يعبر عن رأي الغذامي بطريقته ووفقاً لوعيه. ويكتب كذلك بأدواته التعبيرية عن الدوار الذي أصابه كما أصاب الغذامي.
- وكتب من رمز لاسمه ب(ابن ماجد) تحت عنوان « إبحار « (28) معلناً انتماء شعر العروي إلى سماه الرومانسية الجديدة، التي تنطلق من عالم الذات لتصب مرة أخرى في عالم الذات. بمعنى أن ذات الشاعر هي المحور الذي يدور حوله العالم الشعري، وهي مركز الكون وبؤرة الاهتمام (29) ثم يحصي البحور الذي كتب فيها الشاعر، ويأخذ عليه استعانته بأبيات من الشعر النبطي في إحدى القصائد. (30 )
وبعد: فقد وقف كل من هؤلاء النقاد مع شعر العروي موقف القارئ الحذر، واتفقوا جميعاً على كسره لنمط التلقي، ومجاوزته لمألوف الشعر واعتياد الذائقة، وخروجه عن أسر من كتب ذلك الشكل في القصيدة التناظرية، حتى مع اتفاق أكثرهم على أن الكلاسيكية هي الإطار الصنفي لهذه الكتابة، فهي كلاسيكية خارجة عن نطاق الكلاسيكية القديمة. أو كما وصفها أحدهم رومانسية جديدة.
كما اتفقوا على اختلاف هذه التجربة عن كل معهود أو مألوف وفق النمط التناظري، وكانت طرائقهم في التعبير عن هذا الاختلاف، متفاوتة من حيث إيراد الشواهد والتطبيقات، أو تقصي تمثلات ذلك الاختلاف وسوق الأدلة عليه.
ولا أبالغ إذا قلت أن هذه التجربة بنموذجها الديوان الأول، أو الثاني أو كليهما، قد قوربت نقدياً من قبل أولئك النقاد والكاتبين بما يقتضيه اختلافها، وتتطلبه الفرادة التي وصف أولئك التجربة بها.
بالرغم من أن مبادرتهم والكتابة عنها. ولا سيما الغذامي – من خلال موقعه في مشهدنا الثقافي – قد أسهم في إشهارها – ولفت الانتباه إليها.
- حتى كتب الناقد الدكتور محمد صالح الشنطي قراءته الأولى لقصيدة (شجنية ابن الريب الجهني، عهد الرمل(31) بعنوان :» استدعاء الماضي « و الشنطي ناقد راصد ومتابع لمنتوجاتنا الأدبية، وقريب وفاعل في مشهدنا الأدبي، من خلال دراساته التطبيقية النقدية، التي كتبها من الشعر والقصة والرواية في المملكة العربية السعودية، ومن خلال تدريسه للأدب السعودي.
ودراسته هذه قراءة تحليلية معمقة لقصيدة العروي، كتبها غير حذر ولا وجل ولا بادئ بالشهادة بالاختلاف للتجربة. فقد اختلف إلى النص، يقارب مضامينه، ويفكك آلياته الأسلوبية، وبناه اللغوية ومستوياته الجمالية والدلالية.
كان الشنطي هو المختلف هذه المرة، عمن سبقه في التعاطي مع شعر العروي، يقرأ القصيدة من خلال نظرته إليها في مجمل إنتاج الشاعر، وفي سياقه الزمني. يقول: (الشاعر حسين العروي، ظاهرة خاصة في الشعر العربي السعودي المعاصر، تتمثل في المنحى الأسلوبي الذي يتخذ من القصيدة العربية القديمة معلماً وصياغة وحقلاً لعمله التشكيلي لتوليد رؤيته الجديدة، مفارقاً بذلك الإحيائيين والتجريبيين، مما يمنح قصيدته لوناً خاصاً به، وحتى نتبين أبعاد تجربته الشعرية اخترنا نموذجاً له قصيدته: (شجنية ابن الريب الجهني عهد الرمل)، وفي هذه القصيدة يترسخ دلالياً وجمالياً مرثية هذا الشاعر لنفسه، ويكتب النص موضع الدراسة – بوصفه نموذجاً يمثل نهج الشاعر في معظم إنتاجه عدة قضايا فنية تتعلق بظواهر أسلوبية حديثة، مثل: التناص، القناع، التشاكل، والتباين وتوظيف التراث)(32). ومن ثم يلج الناقد إلى استعراض تطبيقات بعض هذه الظواهر في النص. ويقرر الشنطي في مدخل القراءة، أموراً بالغة الأهمية في هذه التجربة.
وهي خصوصيتها في سياق الشعر العربي المعاصر في المملكة. وتقديمها لرؤية جديدة ليست تجريبية أو إحيائية. وتوظيفه للقيم الأسلوبية الجديدة في شعره.
ولم نقرأ للنقاد من قبله ما يمكن أن يكون استظهاراً لما تحمله التجربة من قيم شعرية وجمالية تدلل على الاختلاف الذي ألحوا عليه كثيراً. فالشنطي يلج إلى عمق هذه التجربة من خلال معطياتها النصية، ويقرن الفرضية بمثالها، والقيمة بمحتوى وكيفية تحققها في النصوص. بمعنى أن يلامسها ويقاربها بوعي واستقراء عميقين، بلا حذر أو إطلاق للأحكام العامة والفرضيات المطلقة والنعوت المناقبية.
وقد عاد في كتابة (التجربة الشعرية الحديثة في المملكة العربية السعودية) (33)
وأكد على أبرز مظاهر خصوصية تجربة العروي. عندما قرأها كاملة واستخلص منها عدة نتائج، منها:
1- ديناميات الحروف الدالة، ورأى فيها أن الشاعر يصنع كونه الشعري الخاص، وهو كون مشيد من مداميك قوامها مفردات الصحراء والريح والسفر والمطر والقمر.
2- اللغة وفعل التشكل، وقال إن الباحث في شعر العروي يرصد كماً هائلاً من المفردات الدالة على اللغة، والتي يتكرر بعضها على نحو ملحوظ في كثير من النصوص.
3- النداء ودلالاته، حيث ثمة صيغة أسلوبية تكرر بكثرة في شعره، وهي صيغة النداء – وهذه الصيغة تعبر عن التوق الأزلي إلى الآخر، كما يعبر عن سمة الوجدانية التعبيرية – ولهذا جاء عدد كبير من قصائده مستهلاً بالنداء.
4- الوصف والسرد والتعقيب. ففي قصيدته سارة العتيبية، التي ذيل عنوانها بعبارة في مأساة الشمال الشرقي من الجزيرة العربية، حيث عمد الشاعر إلى الوصف والسرد أو التعقيب، أي تسجيل الموقف الخاص به.
إضافة إلى جدلية الحضور والغياب، والبنية المزدوجة، والتكثيف الدلالي، وجماليات الالتفات، والمشاكلة والاختلاف، والبنية الإيقاعية والتشكيل الصرفي. (34 )
وقد ساق الناقد الشنطي من نصوص الديوان، ما يدل على هذه الظواهر والنتائج النقدية، ويسند وجودها ويمثلها نصياً.
وهي وإن كانت تتوافر في شعر شعراء المدينة وغيرهم، فإنها لدى العروي تأخذ منحاها الخاص. ومستوى تأتيها المعبِّر عن مغايرة تجربته وخصوصيتها. وأحيل في هذا المعنى إلى ما قدَّم به الشنطي دراسته الأولى، وما أكد عليه من خصوصية شعر العروي في سياق الشعر السعودي المعاصر. واتخاذه منحاً خاصاً به.
- وبعد عقد ونصف تقريباً من هذه الأطروحات النقدية، قدَّم الباحث الأستاذ سعد الرفاعي دراستين نقديتين،الأولى بعنوان: (مقاربة تطبيقية لمنهج سمات الأداء الشفهي على أحد الأعمال الشعرية لحسين العروي).
والأخرى بعنوان:(من إحالات اللون في شعر العروي).
وقد مهَّد لكل من الدارستين بمفاهيم ومصطلحات نظرية، ومقدمات تعريفية، وشواهد نصيَّة لكل من موضوعيهما، وأسهب في ذلك ولاسيما في الدراسة الثانية. أما دراسته الأولى فقارب فيها أبعاد التشكيل البصري وتمثلاته وتطبيقاته في نصوص انتخبها من شعر العروي، والدراسةُ تبحث تحديداً في موضوع التشكيل البصري، ولانجد فيها تطبيقاً لما سمَّاه: (منهج سمات الأداء الشفهي).
وفي الدراسة الثانية تتبع الباحث إحالات ودلالات اللون في شعر الشاعر، بوصفه مظهراً بارزاً فيه، يحيل إلى أبعاد جمالية عدة، من خلال آليات التحليل والاستنتاج التي اعتمدها، والنماذج والتطبيقات التي قدَّمها.
- وأختم بما جعله الشاعر مقدمةً لأعماله الشعرية في جزئها الأول، وهي كلمة للأستاذ جار الله الحميد قدَّم فيها الشاعر في إحدى أمسياته الشعرية، ويمكن أن تقف بنا هذه الكلمة، على أبرز ما يميز تجربة العروي التي تحقق كونها اللغوي الخاص كما قال الشنطي، وتحقق كينونتها الشعرية و فضاءها الدلالي والجمالي الخاص كذلك، ومن ثم فهي تغاير التجارب التي سبقتها أو تلتها، في سياق الشعر المدني والسعودي المعاصر. يقول الحميد:(..وأما اختيار الشاعر حسين العروي للشكل التناظري، فقد تم بوعي مسؤول، وليس بسبب انحياز للتقاليد التي جعل منها بعضنا أوثاناً يقدسونها، نعم يكتب العروي قصيدة حديثة فيها أطياف التجديد بلغة غير معجمية؛ لغة منفلتة من القيود، ولكنها تعي حريتها وهي تمارس فعلها في ذهن القارئ، ذلك الفعل المدهش حقاً، حتى نتساءل: لماذا لايكتبون الشعر العمودي هكذا؟...ولنسمع حداثة المعنى والشكل في قوله:
طارت وفي صوتي ضبابٌ مترفٌ
وعلى جبيني نجمةٌ وتلهُّفُ
يالونها أنت الجحيم فكن هنا
وطناً خرافياً هواهُ تصوفُ
جذِّر على ألم الظلام قصيدةً
غجرية الإيقاع ورداً يذرف(35)
21- معجم البابطين للشعر العربي المعاصر، الشعر العربي المعاصر في المملكة العربية السعودية. د.عبدالله المعيقل، 6-200.
22- مقالة للدكتور حسن الهويمل، صحيفة الرياض، الخميس 29 ذي القعدة 1412هـ.
23- السابق.
24- السابق.
25- السابق.
26- السابق.
27- صحيفة الندوة، 9 شوال 1412هـ.
28- صحيفة الجزيرة، 13 شوال 1412هـ.
29- السابق.
30- السابق.
31- الأعمال الشعرية الكاملة، ص61-69.
32- السابق.
33- التجربة الشعرية الحديثة في المملكة العربية السعودية، د.محمد صالح الشطي، النادي الأدبي بحائل، ط1، 1413هـ.
34- السابق 1-310-332.
(35) الأعمال الشعرية الكاملة. ص12-14.
المدينة المنورة