يسأل مقدِّمُ البرنامج ضيفه، في إحدى القنوات التلفزيونية التي تصف نفسها ويصفها جمهورها ب»الإسلامية»، في سياق أسئلة عن استخدام الهاتف النقَّال اتخذها البرنامج موضوعًا له، كما اتخذ ضيوفه من الدعاة والمشايخ ومن يشيع وصفهم ب»الإسلامي» من الأدباء والإعلاميين:
- «أنت ترى يا أبا (فلان) أن يقوم ولي الأمر في البيت، يعني الأب أو الأخ الكبير أو كذا... بالتسلل أحيانًا إلى تلفونات الأبناء والبنات والنساء اللي في البيت والزوجات ويشوف اللي فيها... وإلا ما ترى ذلك»؟.
فيجيب الضيف، سريعًا:
- «لا، أنا أرى ذلك، أرى ذلك، بهدف تربوي دقيق. ولا يقل لي بعض الآباء والأمهات إننا نثق في أبنائنا. كلنا نثق في أبنائنا، ويمكن لو تجي توازنها ستجد أن ثقتنا في أبنائنا - نحن الذين نراقبهم - أكثر من غيرهم».
ولم يعترض مقدم البرنامج، أو يداعب ضيفه، بسؤاله - مثلاً - عن تعارض ما يصنعه ويريد لغيره أن يصنعه، مع نهي القرآن الكريم عن التجسس: «ولا تجسسوا» (الحجرات: 12). أو أن يسأله عن ما يشف عنه هذا الرأي من اتهام للتربية المدرسية والمنزلية والدينية لدينا بالإخفاق والفشل والحاجة المستمرة إلى رقابة! أو عما تؤدي إليه هذه الوصاية والرقابة من عواقب وخيمة من قبيل نزع إحساس المسؤولية لدى من تطاولهم باستبدادها وتأجيج رغبة التجريب واستيهامات الحرية وتأكيد الذات... إلخ!. وقد نفهم أن موقف مقدم البرنامج - وهو شخصية عذبة الروح وسخية الابتسام واللطف، وبشكل يلفتك إلى ندرته في سياقه - هو موقف الاستجواب لا الموافقة فضلاً عن التفاعل، وهو موقف مألوف في برامج من هذا القبيل. لكن السياق لا يساعد على ذلك، بل يرشح بأكثر من قرينة دلالة تشابه مع برامج الإفتاء التي لا يقف مقدم البرنامج فيها إلا موقف الصامت والموافق والمستزيد وليس المحاور والمعترض.
وهذا يقودنا إلى الطابع المونولوجي في الموقف المعرفي الذي تدلل عليه البرامج في مثل هذا السياق؛ إنه موقف مكتمل وناجز سلفا، ومكتف بنفسه. وقد شاهدت لقاء في القناة نفسها مع أكاديمي يقدم - في قناة أخرى - برنامجا اتخذ من الحوار مدارا لعنوانه، وجاء السؤال إليه عن تواتر التشابه في الشخصيات التي يستضيفها برنامجه؛ فلماذا لا يستضيف من يختلفون عنها، على رغم أن البرنامج يعلن الحوار في عنوانه؟ وأجاب بأن هذه سياسة القناة، وأحيانا هو هدف البرنامج. وهي إجابة تعني انتفاء الحوار وانتفاء المعرفية في البرنامج، فهو برنامج مونولوجي بلا اختلاف!
وتزداد صفة المونولوجية تأكيدا في ملامح أخرى؛ ففي مرة كنت أشاهد برنامج تسلية ومسابقات، وكان لدى مقدم البرنامج من الظرافة والدعابة ومن السمات الرياضية والتهريج ما يؤهله للتقديم. وكان يتنقل في أحد ملاهي الأطفال بين الأشخاص المصطحبين لأطفالهم، ورأيته يتجه إلى رجل مع طفله ثم جاء رجل آخر في اللحظة ذاتها، وبدلاً من أن يكمل لقاءه مع الأول أعرض عنه إلى الثاني الملتحي في حركة بدا لي أنها بسبب الشكل الذي يتفق مع هيئة المقدم، ورأيت الرجل الأول يمسك بيد طفله ويمضي!. وما حدث يكتسب تأكيدا من سياق القناة نفسها بحيث لا يمكن أن يفسر بخطأ فردي، ولا يبرر بالمزاج والهوى في ذاتيته وخصوصه.
وليس منع المرأة بشخصية الجادة الداعية والعالمة والأكاديمية... إلخ من الظهور كليا في برامج القنوات التي تمثل هذه الوجهة إلا ملمحا آخر من ملامح تأكيد المونولوجية.
إن فكر التفتيش والتجسس الذي رأينا مثاله في المشهد الأول هو فكر تخويني سيئ الظن. والالتزام الأخلاقي والديني لديه هو ناتج الاضطرار لا الاختيار والقهر لا الحرية والإكراه لا المحبة. وناتج ذلك ومحصلته في النهاية هو مجتمع مقهور لا حر بكل ما تؤدي إليه هذه الصفة من النتائج والسلوكيات التي سميتها في مقال سابق «صراع الفأر داخل المصيدة». إنها تنتج الملق والرياء والتحايل والتكاذب... إلخ وتقتل في الكائن ذاتيته المستقلة التي تنشأ عنها القناعة والصدق والوضوح والشجاعة والقوة. ولهذا تغدو المجتمعات التي يهيمن عليها فكر التفتيش والرقابة والوصاية مجتمعات مأزومة لأنها تتبادل - كما شرح ابن خلدون في مقدمته - مع هذا الفكر إنتاج الخوف والتواكل والتخلف والضعف.
والمعنى نفسه ينطبق على الفكر الذي تشف عنه إجابة الضيف في المشهد الثاني، إنه فكر موجه أيديولوجيا، فالشخصيات في البرنامج الذي يديره تأخذ مدار التشابه من منظور الإقصاء للمختلف، والهدف - عمليا - هو إنتاج مجتمع معقم من النخبة الذين انتخبهم البرنامج ووسمهم بوسمه. فليس التشابه المقصود بين الشخصيات في خصوصها العلمي أو المهني، ومن هنا تحديدا تبدو صفة الفكر الذي يختبئ خلف هذا البرنامج مطابقة لفكر الضيف في المشهد الأول، أعني فكر التفتيش والوصاية والرقابة، لكنه يظهر هنا بوضوح عملي في الفرز والتصنيف الذي ينتسب في إجابة مقدم البرنامج إلى القناة ويدمغها بهويته.
وهكذا يستجيب المذيع الظريف في برنامج المسابقات لهدف التعقيم الذي يدلل عليه ذلك الفرز والانتخاب، استجابة تلقائية. وهي استجابة أكثر دلالة - ربما - على التوق إلى رؤية المكان خارج الاستديوهات والمباني معقما بالفرز والتصنيف ومفسوحا بحسب معايير التفتيش والرقابة، بحيث يؤثثه التشابه نفسه الذي جمع لدى الأكاديمي شخصيات ضيوفه. وأتصور أن العلة نفسها التي تنتج الرغبة في التعقيم والوسواس القهري تجاه النظافة الاجتماعية من هذه الوجهة هي المسؤولة عن حرمان جمهور هذه القنوات من ظهور الداعيات والعالمات وغيرهن من النساء اللاتي يستطعن أن يصلن بحكمتهن إلى أهداف تربوية عميقة، وأن يسهمن في الرأي والتحليل تجاه قضايا مجتمع يمثلن نصف عدد سكانه.
إن الخطاب المونولوجي هو خطاب توحيد قسري من خلال وعي حاكم يجعلنا نواجه صوتا واحدا ووحيدا. وهو هكذا تجل صارخ للاستبداد وتعام عن الآخر الذي لا تستطيع الذات الموصوفة في خطاب السياقات التي صنعت المشاهد المذكورة أن تدرك ذاتها بوصفها كلا في غيابه التام؛ ولهذا يفتقر خطابها للموضوعية والواقعية، فهو خطاب ذاتي، وذاتيته هذه - كما يعلمنا منظر الحوارية باختين - تجعل الآخر مجرد موضوع للوعي وليس وعيا آخر لها. ومن الطبيعي أن يقترن في هذا الصدد خلو مثل هذه البرامج من الفنية ومن المهنية الإعلامية مع خلو القنوات التي تحتضنها كلية من الدراما، فالوجهان معا حصيلة فكر يرفض الحوارية.
ولا شك أن هذا الموقف ليس عاما في القنوات الموصوفة ب «الإسلامية» فهناك محاولات لاختراق العزلة وتخطي حاجز الذاتية الصفيق الذي نتج عن فكر التفتيش وهيمنة الخطاب المونولوجي، في برامج تفسح مساحة ما للتحاور والاختلاف. لكنها قليلة - على أي حال - وفي بعض تلك الفضائيات نادرة، وعادة ما تكون موضع اعتراض من قبل الجمهور النمطي (المونولوجي) للقناة، ويتلقى مقدموها لوما وعتابا وأحيانا هجوما. ويمكن - أحيانا - ملاحظة الحرص فيها على تشويه المختلف واحتشاد الجمهور المبرمج لمضادته حتى وهو يتكلم بآراء فقهية مؤصلة وذات شيوع. وهناك شخصيات دعوية وعلمية على قدر عال من الوعي بالعصر واستيعاب فكر النهضة والإصلاح وتبني خطاب نقدي منتج للمعرفة بالذات. وأعتقد أن من يشاهد -مثالا لا حصرا - برامج الشيخ سلمان العودة وأحاديث الشيخ عايض القرني وخواطر أحمد الشقيري سيمتلئ بالتفاؤل ويغتبط برؤية ذات هم حواري ومعرفي هو المأزق الحقيقي للرؤية «الإسلامية» للعالم في عصرنا، وهو الحل في الوقت نفسه وجودًا وعدمًا.
الرياض