لا تزال المعالجات النقدية بحاجة إلى روافد جديدة تكسر نمطية التحليل، وتوغل في سبر أغوار الأثر الأدبي، ويعود الاهتمام بنظريات الحِجاج Argumentation إلى فاعليتها في فك مغاليق الخطاب، وإلى قدرتها الاختراقية للمناطق القصية من النص.
وإذا كان بيرلمان Perelman ورفيق دربه تيتيكا Tyteca قد قدَّما بلاغة جديدة في مصنفهما الحِجاجي الذي حرفا فيه مسار البلاغة السائدة في أوربا في القرن التاسع عشر فإن ما أنجزاه ظل في نطاق الحجاج العادي، حتى جاء ديكرو Ducrot سنة 1972م فقدم في نظريته حجاجا تقنيا تكون فيه وظيفة الكلام أن يوجِّه لا أن يَدُّل، ومن هنا وجب التمييز بين الاستدلال Raisonnement والحِجاج Argumentation؛ لأنهما ينتميان إلى نظامين مختلفين، هما نظام المنطق ونظام الخطاب، فالاستدلال عن طريق قياس شرطي أو حملي لا يشكل خطابا بالمعنى الدقيق الذي يعطيه ديكرو لهذا المصطلح.
لقد عمل ديكرو مع صديقه انسكومبر Anscombre على إنجاز مصنف أطلقا عليه اسم (الحِجاج في اللغة) وسعا فيه المفهوم بعد أن كان قاصرا عند بيرلمان وتيتيكا على جعل العقول تذعن وتسلِّم بما يطرح عليها من الأقوال، فدائرة بيرلمان وصاحبه منحصرة في الهدف والغاية من الحِجاج، وهو ما حاول ديكرو وزميله أن يتجاوزاه بجعل الفن والتقنية مدار الاهتمام، وبهذه القفزة النوعية أضحى الحِجاج بابا رئيسا في المباحث التداولية.
المتحدث - بحسب رأي ديكرو - إذ يحاج إنما يقدم قولا أولا (ق1) أو مجموعة من الأقوال تقود إلى الإذعان والتسليم بقول آخر (ق2) أو مجموعة من الأقوال الأخرى، ويمثل (ق1) أو مجموعة الأقوال الأولى حجة منها يقع الانطلاق في الحدث الحجاجي، في حين أن (ق2) هي النتيجة التي يروم الباث تسليم متقبله بها، وهذا الانتقال من (ق1) إلى (ق2) هو بؤرة التعريف التقني للحجاج، وهو ما عبر عنه ديكرو وصاحبه بفعل التوجيه L`orientation.
ويقدم ديكرو - في عرض قام به - مثالا شهيرا عن مفهوم الحجاج يوازي فيه بين هذين الملفوظين:
(أ) لم يقرأ كل روايات بلزاك.
(ب) قرأ بعض روايات بلزاك.
ثم يقول وفق ترجمة – صابر الحباشة (الحجاج 5-70) -: إن الملفوظ الأول (أ) موجه بالضرورة نحو استنتاج سلبي من جنس: الشخص المتحدث عنه محدود المعرفة ببلزاك، أما الملفوظ الثاني (ب) فعلى العكس من ذلك إذ أرى أنه موجه نحو استنتاج إيجابي، من جنس: الشخص المتحدث عنه يعرف بلزاك.
ويواصل قائلا: عمد مختص في علم النفس كان حاضرا أثناء العرض إلى وضع اختبار فحص توصيفي، وقد طرح هذا الباحث على طلبته المختصين في اللسانيات السؤال التالي: أردتم معلومة من المعلومات حول قسم من أقسام الكوميديا البشرية (رواية بلزاك) وأنتم مخيرون في الحصول على المعلومة بين أن تتوجهوا إلى أحد المخبرَين: زيد أو عمرو. وجواب زيد هو (أ) وجواب عمرو هو (ب) فأي المخبرَين تختارون؟ ودون تردد اختار الطلبة زيدا. وهذا مفهوم فالذي يقول: إنه لم يقرأ كل الروايات ينبغي أن يكون قرأ على الأقل عددا مهما منها، أما الآخر الذي نقول: إنه قرأ بعض الروايات فلا يمكنه أن يكون قرأ كثيرا منها، فعلم النفس على ما يبدو إذن يفند ما قدمته على أساس كونه نتيجة لسانية، أما بالنسبة لي - والكلام لديكرو - فأذكر بأنني أرى أن (ب) هو الموجه وجهة استنتاج إيجابي بالقياس إلى المعارف البلزاكية التي يمتلكها الشخص المعني، أما (أ) فهو الموجه نحو استنتاج عدم المعرفة.
الطريف في الأمر أن صابر الحباشة في موطن آخر وبالتحديد في كتابه (التداولية والحجاج) حاول تعريب المثالين على النحو التالي:
(أ) لم يقرأ كل كتب الجاحظ.
(ب) قرأ بعض كتب الجاحظ.
لكنه دون أن يشعر أورد اسم بلزاك في تحليله مع أنه لم يشر إليه في المثالين، وتلك بلا شك بعض الفخاخ التي وضعها ديكرو لمن يريد السير على منواله.
وتتسم الحجج اللغوية بأنها سياقية، بمعنى أن السياق هو الذي يمنح العنصر الدلالي الحجاجية بالإضافة إلى كونها نسبية فلكل حجة قوة معينة، ثم هي قابلة للإبطال؛ لأن الحِجاج اللغوي مرن وتدريجي بخلاف البرهان المنطقي والرياضي.
ويعد السُلَّم الحِجاجي من أهم مرتكزات نظرية ديكرو، حيث يقوم على علاقة تراتبية، ويخضع لمجموعة من القوانين من أهمها:
أ- قانون النفي: ويعني أنه إذا كان قول ما مستخدما من قبل متكلم ما ليخدم نتيجة معينة، فإن نفيه سيكون حجة لصالح النتيجة المضادة.
ب- قانون القلب: وهو عنصر داعم للنفي، بينهما علاقة تكامل في بنية السلم الحجاجي، لكن هذا التكامل يظهر عبر خاصية التعارض.
ج- قانون الخفض: وهو يحيل على سلمية حِجاجية تتميز بالتأرجح وعدم الثبات، بعكس ما يتضمنه القانونان السابقان اللذان يتسمان بالوضوح القائد إلى التأثير ثم الإقناع.
وأحسب أن ضرب الأمثلة مهم لشرح هذه القوانين بشكل أجلى، لكن ضيق مساحة المقالة يدفعني إلى ضرب الصفح عن جوانب مهمة في هذه النظرية، مثل الحديث عن روابط الحجاج وعوامله، ومثل الكلام على مقومات القوة الحجاجية ومبدأ التعارض الحجاجي والعلاقات السُّلَّمية سواء ما كان منها تفاضليا أو تقابليا.
لكني لا أستطيع مغادرة النظرية قبل الإشارة بشكل سريع إلى أهم البنى الكبرى التي تنظم التصور في التداوليات الحجاجية، وهي:
1- البنية الاستدلالية للحجة: وهي التي تبدو فيها المهارة الحجاجية من خلال إنتاج مجموعة من الأفعال والحالات المشتملة على علاقة وطيدة بين المقدمات والنتائج.
2- البنية النقدية للحجة: وفيها يبدو البعد الجدلي قائما على إنتاج مجموعة من الحركيات المبنية على الإقناع أو التفاوض أو الاستنطاق أو التداول مع الاعتماد على قواعد الكشف والفحص والنقد.
3- البنية التأثيرية (الإقناعية) للحجة: وتركز على العلاقة بين المدعي بالحجة والجمهور الذي يوكل إليه في النهاية قبول الحجة أو رفضها.
4- البنية المغالطة للحجة: وفيها تتم دراسة أنواع الخروقات التي تعوق عملية الحوار النقدي بين المشاركين مع تحليل هذه المغالطات وتقويمها.
وعندما اقتربت النظرية من النضج كثرت الأبحاث والدراسات التي أسهمت في تأطيرها ورسم آلياتها، ويمكن أن نعد فان دايك Van Dijk من أهم الشخصيات التي حاولت تقريب النظرية للقارئ، فقد حمل على عاتقه في كتابه (النص والسياق: استقصاء البحث في الخطاب التداولي) توحيد النظرية اللسانية في اتجاه التداولية التي تجمع سائر ظواهر اللسان وتخرج إلى المحيط السياقي وأفعال الكلام؛ ليقدم تركيبا كليا لسائر ظواهر الخطاب بوجه عام.
وعلى الصعيد العربي يمكن أن نقول بأن كتب محمد العمري وعلى رأسها (في بلاغة الخطاب الإقناعي) و(البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول) تعد إضافة كبرى لما قُدِّم من معالجات تداولية خارج نطاق الترجمة.
وإذا كانت التداولية قد أضحت تداوليات منذ فجر هذه النظرية فإنه لا يمكن تغييب التجربة التونسية هنا، فقد قاد حمادي صمود فريقا اشتغل على أهم النظريات الحجاجية منذ أرسطو إلى اليوم، وأنتج مجموعة من الباحثين الشباب كعلي الشبعان الذي نشر أطروحته تحت عنوان (الحجاج والحقيقة وآفاق التأويل: بحث في الأشكال والاستراتيجيات)، ثم أصدر بعد ذلك كتابا سماه (الحجاج بين المنوال والمثال) حاول من خلاله اختبار حصيلته الحجاجية بتوجيه عينه الناقدة نحو بعض النصوص التراثية.
ويستمر النشاط مع شكري المبخوت، فهو بالإضافة إلى إثرائه المكتبة التداولية المترجمة من خلال ترجمته للمعجم الموسوعي للتداولية وتقديمه معالجات حِجاجية ناجعة قد خرج من تحت عباءته شبان متوقدون مثل عز الدين الناجح الذي أنجز عشرة أبحاث فيما لا تزال رسالته مرقونة بآداب منوبة، وكنت قد التقيت الناجح في إجازة الصيف الماضية بتونس ودار بيننا حديث طويل في أكثر من جلسة حول مدارس الحجاج والمنجزات الحجاجية العربية، وقد لحظت عليه – فتقبل مشكورا – اقتصاره أثناء مواجهة النصوص على الحدود التي رسمها ديكرو، وقلت له: إنك هربت من نمطية البلاغيين القدامى لتقع في مدرسية ديكرو وإنسكومبر.
لقد كانت براعة عبد الله صولة - رحمه الله - كبيرة حين لم يحط نفسه بسياج التداوليين بل سحب إلى عالمه خلفيته الأسلوبية أثناء معالجته للحجاج في القرآن الكريم فاستطاع تشغيل مفاهيم البلاغة الحجاجية وأدواتها، وتوصل إلى نتيجة مفادها «أنه بالإمكان طمس الهوة الفاصلة فصلا صارما في البلاغة الغربية بين بلاغة الأسلوب من ناحية وبلاغة الحِجاج من ناحية أخرى».
ولا يفوتني هنا أن أشيد بالجهد الجبار الذي بذله حافظ علوي، حيث أخرج موسوعة الحِجاج في هذا العام 2010م في خمس مجلدات سِمان، تضمنت ما يقارب جهد خمسين حِجاجيا من أقطار الوطن العربي، وقد جاء كل جزء منها يحمل عنوانا على النحو التالي:
الجزء الأول - الحجاج: حدود وتعريفات.
الجزء الثاني - الحجاج: مدارس وأعلام.
الجزء الثالث - الحجاج وحوار التخصصات.
الجزء الرابع - الحجاج والمراس.
الجزء الخامس - نصوص مترجمة.
إن هذه الأعمال مخاض عربي يتسم بالمرونة في توظيف الأسس النظرية للخطاب الحجاجي، وكل مقاربة فيها تروم امتلاك كفاية تفسيرية ملائمة للنصوص، تسعى من خلالها إلى الكشف عن بنية النص وطرائق اشتغاله.
ما أجمل أن تتصاقب المناهج وتتكسر الحدود بينها، بحيث يتمكن الناقد بهذه الرؤية التوالبية من تنشيط التراكيب النصية؛ لنُهدي إلى روح عبد الله صولة - الذي مزج بين المنهجين الأسلوبي والتداولي - فتوحات جديدة تترسم خطى تداولية شعرية وأخرى تداولية سيميائية وثالثة تداولية ثقافية.
الرياض