مازال البعض يلوم الأحاديث المتبحرة في الفن المعاصر. لا ضير في وجهة النظر هذه لو كان السبب هو ضآلة عدد التطبيقات المحلية فقط أو قلة الفنانين السعوديين المهتمين. لكن إذا أصبح هذا اختراقا للمعنى الأعمق للفن من خلال التشكيك في معناه وجدواه ورغبة في تسفيهه فهذا يعوزه التوقف والتفكير أكثر.
من الملاحظ أن أكثر الإشكالات في فهم الفن المعاصر هي تلك المتعلقة بالشكل المخرج. ورغم كون هذا موضوعا تأخر جدا الحديث عنه إلا أن نتائجه عندنا مازالت تؤثر في التلقي وجدا..لا مع عموم الناس فقط إنما أيضا مع شرائح ثقافية شابة لدينا من المفترض أنها الأكثر قربا وتفاعلا مع روح العصر.
في البداية يتعين علينا القول أن ليس كل عمل فني قابل للتحول إلى شكل بصري واضح تماما. بعض الفن ذو وحدة كاملة يحتوي على مواقف أصيلة ودقيقة. والفكرة في هذا المستوى مرسومة بحيث تحمل أعماقا لايُسبر غورها بل تتعدد..وأن لهذا التكوين في مجمله قدرة استثنائية على الإفتان. الفن - في النهاية - كل لايتجزأ، وعبر تحوله لمواقف إنسانية يوجد ذاتيته الفذة والمدهشة. إن المواقف كهذه تعد تحفا فنية وفقط ذاك الفن الذي لايبدي اكتراثا بالإنسان وعالمه هو الزائد اليوم ولا علاقة لهذا بالشكل.
كمثال هنا..باليه موري مشروع بدأ بأجراس صغيرة ربطها (كين جولدبيرغ) بأجهزة قياس الزلازل.. الأمر الذي تطور من مشروع إلى آخر ليصل إلى الذكرى الـ 100 للزلزال الذي اجتاح سان فرانسيسكو وبإشراف من كين نفسه تم خلط صوت الأرض الحي المنقول عبر أجهزة الكمبيوتر عبر الإنترنت من أجهزة رصد الزلازل مباشرة ..بالموسيقى الموحية للملحن المنسق”راندال”.. ليتجسد الصوت بشكل مرئي عبر التعبيرات الجسدية لباليه (موريل مافر).
نفاصيل الباليه وهي تختبر العقل الداخلي للأرض يتحرك مرئيا ومسموعا وفورا دون سابق تخطيط للصوت أو الحركة.. يمثل حدثا حيا لإنعاش مختلف المشاعر عبر سماع الحياة الباطنية للأرض التي بتجسيدها بتلك الصورة الموحية في الرقص تعد مشهدا من مشاهد تحطيم كلاسيكية البالية لصالح الفن الآدائي. إذ غالبا مايقدم الباليه مدروسا بدقة وعناية تم تجاوزها هنا لصورة ذات وعي حدسي حي وتلقائي منسجم مع لحظة الأرض الآنية. لحظة (الآن)..لحظة العالم الذي نعيش عليه ولانسمعه.
العمل الفني الجميل من عام 2006 كان حثا للمخيلة بإبداع أخاذ لتلقى حديث الأرض الطويل في أذن الزمن. مثل هذه المعاصرة والتي نلاحظها أيضا في آداءات كثيرة جدا بدأت منذ أواخر الستينات مبنية بواسطة أفكار. هذا النوع من الأفكار لايعوزه الوضوح ومتانة البناء وجدة الموضوع. أعمال كهذه يغيب عنها الشكل.. لاتبدو معنية بالتطور الجمالي للفكر الذي تتضمنه.. نعم. لكن من زاوية فنية خالصة فإن التصور عن الضرورات في الفن يمنح للعمل تلك الكثافة في الإحساس الذي قد يحول فكرة إلى حقيقة وموقف يقرهما الفن.
الفنان ليس مخولا ليوجه فنه هذه الوجهة أو تلك ليرضي المشاهد. كل مايهم هو أن رؤيته ينبغي أن تكون كاملة دون أي مساس بها وأن يكون تقديمه معبرا عما يريده ويمر عبر تجربته الإبداعية الخاصة. ونعم ليس كل فن فنا لكل العالم.. إنما في هذا ليست كل ذائقة يحتكم إليها.
الرياض