التنمية صعود تتفاوت تدريجيته من دولة إلى أخرى ومن قيادة إلى أخرى فالتنمية السعودية تتبنى مشروعاً يتخذ من نمو الإنسان لحماً وعظماً نموذجاً سوياً فتدريجيته واعية ومتماسكة كتماسك جسد الإنسان إزاء المتغيرات المناخية خلاف نمو رجل الثلج الذي لا يستهلك جهداً أو وقتاً لاكتماله لكنه يذوب عندما تتوسط شمس جادة رائعة نهاره.
وفي كلا المشروعين أو الرابط بينهما ما يشي بأن ثمة تعامل براجماتي نفعي يهدف إلى توسيع ممكنات التفوق والرفاهية و الخدماتية غير أن ما يجمع كل تجارب التقدم الحديثة هو إلحاحها على التفاعل الحي مع الواقع ومعطياته دون النظر أو المبالغة في النظر إلى تدخلات الرقيب المثالي فضلاً عن إمكانية دمجه في مشروع التنمية. وما أعنيه بالمثالي يتمثل باحتجاجات الديني والفكري الفلسفي على تفاصيل الآلية التنموية ومخرجاتها غير أن الفارق الجذري بينهما أن الديني حالة طبيعية تحرك السلوكيات وتمتزج في اللاوعي الفطري فعزلها عن فاعليته ويومياته يحتاج إلى علمانية غير مهمة في التنمية أو إلحاد لا يحتاجه لخوض سباق الحضارة أو الاستمتاع بالحياة ذاتها.
ويبقى في المثالي الحالة الفكرية الفلسفية التي يتمتع بها نخب يسوقون للحضارة ويدوعون لتحقيق أسبابها غير أن ما بدا لاحقاً أن التحضر بالمعنى العلمي على خلاف عنه بالمعنى الفكري الفلسفي فالأخير يمارس وظيفة الوصف المحض دون وصاية أو تدخل فيما ينجزه العلمي البراجماتي فالفكري يشرح ما حدث ويحدث وما سيحث دون أن يقدم إضافة حتى في هامش تقدم المجتمع لأنه لم يطرح نفسه شريكاً أو أن الصخب التنموي نفسه لم يجد للفلسفي حيزاً لوقاره في هذا الاندفاع الوحشي والمنتج فكانت العلاقة بين الإنتاج والتفكير الفلسفي علاقة تعايش لا تكامل والتصالح كان السمة الأبرز في علاقة لا زال الفلسفي فيها يغض من شأن الإنتاجي ويصمه بالغباء والتسطيح لكنه لا ينفي عنه حقيقة الإنجاز ورفع درجة الرفاهية ومستوى المعيشة.. يقول مارتن هايدغر: (العلم لا يفكر) إذاً ماذا يفعل العلم في الظلام ليحقق المعجزات في الصباح إذ العلم حسب هايدغر إما أنه لا يجب أن يفكر أو أنه لا يستطيع أن يفكر أو أنه لا يعرف أن التفكير مهم لإنجاز مركبة فضائية معقدة يغزو بها الفضاء في الوقت الذي يحط هايدغر وتلاميذه الفكريون من قدر قادة المركبة وهم على سطح القمر دون الحاجة إلى التفكير بطريقة غير تنموية لتأتي مفردة (التحليل) وتقوم مقاماً بديلاً عن (التفكير) الذي استبد بالوصاية بطرائق كشف أسرار الموجودات والمتحولات.
إن الإنسان المتحضر ليس بحاجة للتفلسف ليطور أساليب تفكير لا تقدم نتائج إيجابية لخدمة يومياته أو ليرفع مستوى أخلاقياته إذ الحس الإنساني لا يتطلب إلا قدرتك الاعتيادية في تحديد ماهيتك في عالمك الصغير والكبير. والشفافية الإيجابية تجاه الآخر تتكفل بها الأديان حتى الوثني منها يدعو إلى الإخاء الإنساني. فإذا كان العلمي يدعو للتفكير والمنتج والأديان تدعو للشفافية الإيجابية فما موقع الفكر الفلسفي بين هذه الثنائية سيما أنه يزعم أنه لا عدواني ولا تجهيلي وكثير ما يدعي أنه داعمٌ لهما بل هو الأصل الأول لكل العلوم وهو أول من أنضج مشروع القيم نقاشاً وجدلاً داخل مدوناته اليونانية وما بعدها.
إن الدعوة لفكر فلسفي في زمن التنمية يعني إهدار الوقت والجهد ليس من أفراد بل من أجيال أممها في حاجتها في التعامل مع النتائج وتطويرها لا في كشف غيبياتها الفلسفية والخوض في المشروع الفلسفيل القديم والوسيط والحديث وكل منها ثورة على الآخر وزاخر بالخرافات والمضحكات التي لا تمت بأي صلة للإنسان القديم والجديد.. يقول أحد أساتذة الفلسفة بعد أن يقن أن الفكر ترف خارج التنمية : (نحن بحاجة لأحمد زويل واحد ولسنا بحاجة لألف حسن حنفي).
من المؤسف أن المشروع الفلسفي في منطقتنا الإسلامية دخل في جدل ـل100 عام مع الديني أيهما القادر على قيادة التنمية وجاء الفلسفي محمولاً بأدلة صناعية نسخها من أوربا ليفاخر بالإنجاز الأوروبي بعد إجهازه على المنافسة الدينية وصعوده الحضاري فما كان إلا ما قاله الشيخ محمد عبده بأن أوروبا تركت الدين وتقدمت ونحن تركنا الدين وتخلفنا أكثر. ولم يع أقطاب الترف الفلسفي هذه المقولة القديمة النابهة بل ربما حشروها في خانة الرجعية والتطرف وواصلوا تعطيل الإنتاج الحضاري بتعجيز أسبابه ثم تراجع كثير منهم آخر حياتهم عن هذه العبثيات ولا زال آخرون يؤمنون بهذه الأفكار التي دحضتها التنمية الحديثة والتي أكدت أن الذي يعمل يحقق دون النظر إلى خلفياته وتقاليده ويقيناته أو خرافاته غير أن أنصار الترف الفلسفي وهم خارج الإنتاج الإنساني يلحون على أن التقدم لا يتم إلا عن طريقهم وتجربة التقديم الحديث برهنت على أن المجتمع الديني المتشدد يتقدم إذا وفر الأسباب الطبيعية لحركة الإنسان وكذلك العلماني والوثني وحتى المجتمع المحكوم بنظام استبدادي يحقق التقدم إذا وجه طاقته للعمل فالطاقة لا إيمان لها ولا إلحاد لا كما يعتقد الفكريون اللادينيون. إن مما يدعم أن الفكر ترف خارج التنمية هو ضعف العطاء الفكري الفلسفي في مشاركته التنموية فهو لا يتعدى التشجيع والرصد والتخويف العبيط من الأدلجة والأسلمة بالطريقة ذاتها التي حذر بها المحافظون من العولمة وأخطارها.
إن المفكر لم يحدد هويته داخل التحديث ويشعر أنه خارجه وأنه ترفي مشاغب بعد أن سفّه السياسي والاقتصادي والديني والرياضي والشعبي ووصفهم بالخروج على الفكر وهم كذلك فكرياً لأنه هو خارجهم تنموياً.
Hm32@hotmail.com
الرياض