في أقاليم القلوب حدائق ذات بهجة لا يعيث بها إفسادا سوى البُعد أو النسيان.
البعد داء القلوب الشفيفة، وهو طابع هذه الحياة الأكثر حضوراً، والأشد أذيّة.
قد يسوغ القول إن البعد يسري على الكافة، بيد أن الأوفياء وحدهم الذين أشد من يكابد ويلاته.
يتشرذم الناس غافلين عن ذات بينهم كما لو أنهم بخلود أهل الآخرة.
وعلى كل ضامر القلب أن يتفاقم ضمورا ريثما ينال شفقة المحبين، ويحرز الحنان السليب.
يهدي الناس إلينا البعد تماما بمقاساتهم. وحين تكون المقاسات فاخرة، فالبعد - إذ ذاك - في أفتك غاراته. كيف يستمرئ القساةُ اغتيالَ الفرح، ووأد الحلم، وإبرام البعد المرير؟ حتى المحبون يختارون لهم أحبابا وأوقاتا للبعد. ظرف ذاك، هم تماما كما الموت الذي قالت عنه مليكة المقدم: «حتى الموت يختار. يأخذ بالأفضل».
من منا لم يقاسِ البعد ؟ نرصده في صحائف أوجه المحبين، في محاجر أمهات الأسرى والمفقودين والقاضين نحبهم، في أنات المفجوعين برحيل أحبائهم الأثيرين. حتى في أشعار المترفين، يسفر البعد عن نفسه بكل جلاء، وفي غاية الحسرة. لا تأتينا الأقدار وفق مشيئة قلوبنا، وإنما تأبى لنا إلا أن نتجرع الفقد المضني. هكذا هي الحياة، مدينة للبعد، ووطن للشتات، وأيقونة للغياب، كما كتب سركون بولص: «الأشياء دوما مهددة بالغياب». لكن هل البعد هو خاتمة المطاف ؟ أم أن جعبة الحياة حافلة بالهدايا ؟
إطلالات الألم هبات من الرب تزوّدنا بالسكينة والتأمل والأمل . إنها ماكينات تعالج عطبنا ، فتفضي بنا إلى الرقة المبددة. لا ينعش القلوبَ مثلُ المعاناة .
وفي هكذا ملابسات، ننكفئ إلى ذواتنا من جديد ، ونتواءم مع أنفسنا إثر وطأة الرتم السريع للحياة، وجبروت الاعتياد البغيض. إنها مواسم الجني لثمار القلوب اليانعة التي – لولا ذاك - ما كان لها الاستواء. للبعد والغياب والنسيان مآثرها أيضا. إذ الناس المنتقَون، وأوقات الرخاء السلسة، ونعيم الاجتماعات الراتبة، تلهينا عن حقائقنا، وتروغ بنا، ربما، عن كائنات رائعة، من الجدارة بمكان.
كل الامتنان للحياة التي – كديدنها على الدوام - تدأب على تحديث قوائمنا: تُسقط أناسا، وتدرِج آخرين. وقتذاك، هي لا تصنع أمرا أكثر من أن تمنحنا حياة أفضل بمراحل، مستقاة من رحم الشتات.
- الرياض