هنالك شبه إجماع على أننا نمر في البلد بمرحلة مهمة من بداية التغيير متمثلة في توسع مساحة التعبير، كما أن هنالك تغليبا للإنترنت كسبب رئيسي في هذا التوسع، وربما مما يمكن ملاحظته أيضا هو أن الذي يسود في هذه المساحة المستجدة هو الاتجاه النقدي.
والنقد هنا بوصفه حاسة لدى الفرد لا باعتباره عمل منهجي أو دراسات متخصصة، وبعيدا عن التصنيف المبسط للنقد بالإيجابي والسلبي، فإن الشروط التي تحكم هذه الحاسة على مستويي الوعي والواقع تبرز بعلاقتين متقاطعتين، الأولى هي ارتفاع الصوت في نقد المجتمع مقابل انخفاضه أمام الفرد، والثانية في التركيز على نقد النتائج مقابل ندرة تناول الأسباب.
تتضح العلاقة الأولى في لفظة (سعوديين) مثلا، فكثيرا ما يتم التعليق الساخر على حالات عدم الانتظام سواء في طوابير المحلات التي لا تخضع لنظام خاص كلياقة اجتماعية أو حتى في قطع الإشارات رغم قانون المرور والجزاءات المترتبة عليه، تلفظ كلمة (سعوديين) بشكل بداهي، مايعني أنها تشكل على مستوى اللاوعي مسلمة لا تحتاج إلى التفكير لقولها، والجمع في (سعوديين) تبرز كانتقاد اجتماعي لا فردي، يقابلها في هذا غياب كبير لنقد الأفراد، يقل مثلا أن يخرج عميل لشركة خاصة أو مؤسسة حكومية بانتقاد موظف الاستقبال الذي أساء إليه بوصفه شخصا إنما سيشتكي من كامل المؤسسة أو الشركة بوصف (استقبالهم سيء جدا) إن لم يكن (شغلهم رديء)، طبعا حقيقة أن الموظف يمثل الجهة التي يعمل بها لا تنكر الحقيقة الأخرى والمعنية هنا وهي التعميم السلبي والجرأة على نقد الكل مقابل الجزء والمجتمع مقابل الفرد.
تظهر علاقة ارتفاع الصوت في نقد المجتمع مقابل انخفاضه أمام الفرد غالبا في مجتمعات الدول النامية بينما في الدول المتقدمة فهي تحضر بشكلها العكسي، وهو تشير كعلاقة إلى معمعة المسؤولية حيث انتقاد المجتمع يغيب الفرد ومن ثم يؤكد على عدم مسؤوليته الشخصية عن تمثيل هذا المجتمع أو المساهمة في تشكيله، لهذا تشتم بعض الشعوب حكوماتها دون أدنى اعتقاد أنها تمثلها من خلال أن مسؤولو الحكومة هم إفرازها بالدرجة الأولى وإن لم يكونوا منتخبوها فهم أفراد ينتمون لنفس المجتمع.
هذه العلاقة إذن هي شكل من أشكال التعميم السلبي، ولهذا لا نجدها في المجتمعات المتقدمة حيث خطأ كل شخص يمثل حالة خاصة تجد عقابها، وإن لم يحدث يتم توجيه النقد نحو الجهة التي ينتمي إليها كخطوة ثانية، وفي هذا الترتيب ما يحفظ القيمة الفردية والجماعية على السواء، بعيدا عن القفزات التي تخل بالمسؤولية، وربما يمكن اعتبار التناول المكثف للحقوق وشدة الصوت فيها مقابل ضعفه عند الحديث عن الواجبات مثال أو نتيجة لهذا التعميم أيضا.
أما العلاقة الثانية فيشكلها التركيز على النتائج مقابل الشرود عن الأسباب، يظهر هذا مثلا في الإفراط بالتعليق على حالة اعتداء ما، أو على حالة ضرب فتاة من قبل والدها، دون أن يقابل هذا إشارة إلى أن في حقيقة أخرى هي حالة تنشأ ضمن مجتمع يغذي التربية المتسلطة وينمي أفراده الخوف بين بعضهم البعض، يبالغ في الرقابة وإقفال القنوات أمام الطبيعة الإنسانية للفتاة عدا عن أنه ينكر حقها المشروع والفطري في التعارف على الجنس الآخر.
وما بين العلاقتين ثمة تقاطع مهم يبرز بأن الذي يدرك المجتمع كواقع (سعوديين) في العلاقة الأولى، لا يستحضره على مستوى الوعي كسبب رئيس في حالة الأب المعتدي في العلاقة الثانية، بينما غياب الفرد على مستوى الوعي في التعميم السلبي لمفردة (سعوديين) يستحضر بحالة الأب على مستوى الواقع كمسؤول، أي أنه واقعيا الفرد هو من يتحمل الخطأ ويدفع ثمنه، يقابله في ذلك عدم إحساسه بالمسؤولية في التغيير الاجتماعي، لأنه على المستوى المعرفي يغيب عن النقد، من هذا يدرك الفرد نفسه مفعولا به لا فاعلا.
إذن، إن كان الواقع يشكل الوعي بأشكال عدة، فإن الوعي يدرك الواقع على الشكل الذي يريد، وإذا ماكان تغيير واقع المجتمع ليس بوسع الفرد الواحد، فإن إدراك المجتمع كواقع هو مسؤولية وعي فردية تقريبا.
الاستفهام الذي يتجدد هنا، هل النقد بوصفه حاسة لدى الفرد هو عملية معرفية لدى الكل باستثناء الكتاب؟ أو أن كثيراً من المقالات اليومية التي تتصدى للظواهر الاجتماعية بالنقد وغيرها من الدراسات المتخصصة والجادة أيضاً يقف خلفها أفراد ينطلقون في رؤيتهم من الحاسة نفسها؟! باعتبار آخر كيف يمكن تفسير التركيز الهائل على الحالات العابرة والحوادث الطارئة اجتماعياً وتناولها بالشجب والرفض أو القبول والترحيب مقابل الغياب الواضح لتناول طرق التفكير والوعي الجمعي والموروث المعرفي والبداهات الراسخة وبقية المسلمات التي تحكم فعلياً المجتمع وتوجه أفراده وتحدد سقوف حريته وحقوقه وواجباته، هل يمكن القول إن الرأي المكتوب والمدون ورقياً لا يبتعد عن الرأي المسموع والمحفوظ شفهياً؟ وأن المقالات الاجتماعية لا تعدو عن كونها حديث مجالس مكررة المعنى ومختلفة الصياغة فقط؟ لعل القارئ يستطيع أن يدرك هذا الفارق من خلال التمييز بين مقالة تعبر عن رأيه فتشكل مجرد متنفسا له وبين المقالة التي تضطره للتوقف ومراجعة الفكر ما وراء هذا الرأي، وهو تماما الفارق بين الاشتغال في الفكر وبين الانشغال بالفكرة..
ربما هو النقد إذن عملية وعي تحتاج إلى تكشف معرفي وانكشاف ذاتي قبل أن تؤدي اكتشافها الموضوعي.
الرياض