تبدو كل كتابة إبداعية ملاذاً لما يوشك أن يندثر من حياتنا، أو طريقاً للكشف عما لا يتضح أمامنا إلا بها.
إنها مصباح الخلوة، ووقار الحنين، ويقين الحضور، ونافذتنا على ما لا نعرف أنفسنا - ككتاب إلا به - ولا نتعرف على الآخرين إلا بواسطته.
هكذا كان يرى عبد العزيز إلى ما وراء بياض الورقة أمام نظارته وضوء عدسة التكبير، وهكذا أخلص للحرف وللكتابة مستمتعاً بألق استعادة سيرة حياة البسطاء الذين استعار لهم كلمة (أندريه مالرو) التي تقول: (ينبغي أن نحاول توعية البشر (البسطاء) على العظمة الكامنة فيهم والتي يجهلونها).
ولذا فإن أيامه كلها قد أضيئت بقنديل تحويل تلك العظمة إلى كتابة.
ولعل طموحاً كهذا لا يعدو أن يكون مشتركاً بين كثير من المبدعين، ولكن عبد العزيز تميز في هذا المجال بإرادة استثنائية، وذاكرة لونية وحكائية خصبة، ومزاجٍ يستمتع بالمفارقة ويجيد استثمارها حديثاً وكتابة.
وقد احتفت ذاكرته البصرية بلمعان اللون وتبدلاته في الطبيعة وحياة الناس في القرى، وأمدته بالقدرة على خلق جماليات التجاور والانسجام في أعماله التشكيلية والسردية.
أما ذاكرته السمعية فقد كانت تحسن الإنصات لالتقاط الحكي الشفاهي سواءً ما تم القبض عليه وتحويله إلى نص سردي يجد مرجعياته في واقع المعاش القروي اليومي أو في الثقافة الشفوية التي تكون الحكاية الشعبية أحد أركانها، أو في ما تم التقاطه من حياته في المدن ومعايشته للمرض والمرضى وعالم المستشفيات.
وإذا كنا نعرف أن مواهب عبد العزيز الغنية تؤهله ولا ريب للكتابة وفق ما يفتحه السياق السردي من إمكانيات إبداع متخيل سردي موازٍ للواقع - وهو ما نراه في بعض قصص (موت على الماء) وسواها من المجموعات الأخرى - فإنه ولأسباب عديدة، اختار مغامرة الاشتغال على شفوية الحكي وبناء نص سردي بسيط وعميق في تجلياته الجمالية والدلالية.
ولأن الكلام لا يستطيع أن ينهض بوظيفته التحليلية دفعة واحدة، فسأكتفي بالقول إن عبد العزيز كان مفتوناً - في حياته اليومية مثلما في حياته الإبداعية - بالانتباه الحميم إلى جمالية المفارقة الكامنة في حياة البسطاء وفي نسيج حكاياتهم اليومية والعفوية المغمورة بعتمة الهامش.
ولذلك استطاع الإمساك بالحزن القابع خلف الحكاية وإعادة رسمها بعيون تجيد غسل الألم بالكلمات ودعابة المفارقة، وانشغل بعملية إدماجها في نظام نصي مكتوب يهيئوها للتفاعل مع سياق متن الثقافة المكتوبة.
يقول في قصة الضوضاء والازدجار في مجموعة (الزهور تبحث عن آنية):
(أربع دورات... دارها (عويد التهامي) حول مراكز الباعة، مفترشي الأرض بسوق الخميس.
.....
بيده اليسرى رباط قصير معقود برقبة الحمارة، وباليمنى مشعابه المشهور في كل القرى المجاورة ب (طِع شَوري):
.......
و...(طع شوري)، هي آخر حد للتفاهم مع من لا يسمع رأي (عويد التهامي)، فإن سمعت قوله.. وإلا فإن (المشعاب سيغني)، وعليك بالطاعة وقتما يصوب (عويد التهامي) عينيه اللتين يكاد يصيبهما الحول، إليك، ويشملك بالنظرة التي لا غناء لموال من التفاوض بعدها إلا ضربة (المشعاب).
وهناك قول آخر، وأخير من لسان (عويد التهامي) قبل هجوم مشعابه (طع شوري): (المشعاب بيغنّي)، وغناؤه لا محالة هو الضرب به.
وعويد التهامي ليس شخصاً من الواقع - مثله مثل الكثيرين من أبطال نصوصه - وإنما هو شخص يسكن مخيال الحكاية الشعبية الشفوية، وقد قام عبد العزيز بإخراجه منها واستضافته زميلاً له في فراش المرض في أحد مستشفيات الخبر ليشاركه تعب (الديلزة) ومواجهة الموت لتأخذ المفارقة المركّبة موقعها ما بين حال وحال.
وبذلك فإن عبد العزيز لم يكن يسجل الحكاية الشعبية تسجيلاً فوتوغرافياً أو سماعياً وإنما كان يعيد الاشتغال على بعض عناصرها، إضافة وحذفاً، ويحولها - وفق رؤية فنية ونقدية تتغيا إنقاذ الحكاية من الموت - إلى عناصر فاعلة في نظام مكتوب ينتقل معه النص الشفوي من صيغة الترحال إلى صيغة الاستقرار كعنصر حي من عناصر الثقافة المكتوبة.
الدمام