أوهمونا منذ مراحل التعليم الأولى أن كل من حولنا أصدقاء (كل من نعرفهم من غير الأقارب وكل من نراهم من الجيران، بل والزملاء في المدرسة)، ثم أوهمتنا مجلات التعارف بأن من تراسله في أبوابها المتاحة لذلك قد أصبح من أصدقائك. وأخيراً أوهمتنا مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات (الفيسبوك وغيره)، بأن من أضفته إلى قائمتك؛ سواء كنت مختاراً أو خجلاً من طلبه إياك الإضافة قد أصبح صديقاً (بالعبارة التي يعرفها المتعاملون في تلك المواقع: فلان وفلان، أو فلان وفلانة، أو فلانة وفلانة، أصبحوا أصدقاء). وزادت تأكيد هذه الصداقة الإلكترونية (أصدقاء قد لا يرى بعضهم بعضاً) بعض البرامج التلفزيونية التي أوردت بنداً في بعض مسابقاتها يسمح للمتسابق بالاستعانة بصديق (والمقصود الاستعانة بمصدر خارج الاستوديو). فهل رأيتم إلى أي حد تم امتهان مصطلح «الصديق»؟ أما إذا أدرجنا ما يستخدمه الخليجيون في نداء من لا يعرفون اسمه من الجاليات الآسيوية باستخدام مفردة «صديق»، فإننا نجد حداً آخر من الامتهان (فهم لا يعرفونه أصلاً، مما يعني أنها درجة أكثر سطحية مما تعلمناه في مراحل التعليم الأولى)؛ وقد زاحمها في الاستخدام مفردة «رفيق»، وهي ألقاب ينفر منها بعض أولئك المحظيين بها.
طبعاً لو عدنا إلى اختيار الكلمة المعجمية هذه بالذات للتعبير عن هذه العلاقة بين البشر، لوجدنا هذه المفردة تحمل في دلالاتها خصائص أخلاقية ذاتية؛ إذ تنص على الصدق (وهو في أوسع حالاته مطابقة القول للواقع). فما علاقة هذه الصفات على وجه الخصوص بما تسمه هذه المفردة في العلاقات الاجتماعية؟ هل هي آتية من كون كل من الأصدقاء ينقل الواقع المحيط به إلى الآخر بكل صدق؟ يجيب عن السؤال بالنفي مسلّمتان من واقع المجتمعات: الأولى أنه ليس كل الأصدقاء (أو ما يسمى الأصدقاء) – ولا حتى عدد كبير منهم يتسمون بهذه السمات في التعامل مع ذلك المحيط؛ والثانية أن هناك عددا كبيرا من الناس يصدقون في قولهم مع جميع الناس – سواء كانوا من فئة ما يسمى الأصدقاء أو غيرهم – وفيه دلالة على أن سمة الصدق شيء ذاتي، وليس من سمات العلاقات بين الناس. ويؤكد هذا المفهوم ما يطلبه بعض الناصحين أو المربين ممن ينصحونهم أو يربونهم، بقولهم: كن صادقاً مع نفسك!
وقبل أن أشغلكم الأسبوع القادم بمحادثات الأزواج غير المجدية في كثير من الأحيان، نستعرض نوعاً من الصداقات التي تؤخذ على سبيل الاستعارة، لنعرف مدى الجدية في نظرة العرب إلى الصداقة، وإلى مفاهيمها بشكل عام. هناك من يصادق الكتاب ومن يصادق المسجد ومن يصادق السيجارة، وآخر يمنح ولاءه للكأس، وغيره للبيت أو غرفته أو جهاز الكمبيوتر أو الجوال (خاصة ذوات التصفح والردود والمراسلات) ... إلخ من الصداقات التي تعددت أشكالها في العصر الحديث.
فهل تنطبق على كل هؤلاء معايير الصداقة؟ وما طبيعة العلاقة بين الشخص المنخرط في هذه العلاقة والآخرين الذين يتواصل معهم بواسطة في حالات التقنية الحديثة، أو حتى في قراءة الكتاب أو الصلاة والعبادة في المسجد، إذا عددنا ذلك تواصلاً غير مباشر مع مؤلف الكتاب، أو علاقة روحية مع الرب في العبادة؟ وهل يحتل الوسيط (الكتاب أو الجهاز وغيرهما) دوراً في العلاقة، أم لا تتجاوزه قيمته الربط بين مستخدمه ومن يتواصل معه؟ أعرف أن لديكم إجابات كثيرة وربما مختلفة عما لدي، لكني أظنكم تدركون اختلافاً في العلاقة بين كل من أولئك الرفقاء، خاصة أن بعضهم (مع الشخصنة) لا يوصل إلى غيره. وللحديث صلة!
الرياض