شهدت الأربعينيات من القرن المنصرم، كما سبق الحديث عنه في الحلقة الماضية، إعادة الاعتبار إلى الدراسات الحنبلية، إلا أنها كانت عودة منقوصة؛ حيث تركز اهتمام الدارسين على الحنابلة المتأخرين، ولم يتهموا كثيراً بأحمد بن حنبل وأتباعه المبكرين. لكن هذا التجاهل تم تعويضه بدءاً من التسعينيات؛ ففي عام 1992 كتب كريستوفر ميلتشرت أطروحته الشهيرة للدكتوراه (في جامعة بنسلفينيا في الولايات المتحدة تحت إشراف جورج مقدسي) عن نشأة المذاهب الفقهية في القرنين الثالث والرابع الهجريين (طبعت في كتاب عام 1997). وقد أفرد ميلتشرت فصلاً لدراسة الحنابلة المتقدمين، وخصوصاً أبي بكر الخلال وأثره في نشأة المذهب الحنبلي. وبعد سنتين (1994) كتب نيمرود هيرفوتز أطروحته للدكتوراه عن أحمد بن حنبل ونشأة الإسلام السني (في جامعة برنستون في الولايات المتحدة تحت إشراف مايكل كوك)، وقد طور أطروحته في كتاب طبع سنة 2002 بعنوان «نشأة الحنبلية: الورع في القوة»، وقد تُرجم إلى العربية سنة 2010. وقد كتب هذان العالمان دراسات عدة أخرى عن الحنبلية المبكرة؛ ما يستدعي عرضاً مطولاً لأعمالهما.
في عام 2006 نشر كريستوفر ميلتشرت، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أوكسفورد، كتاباً بعنوان «أحمد بن حنبل»، ويعتبر - في نظري - أفضل كتاب مفرد عن ابن حنبل حتى الآن؛ حيث يتجاوز كونه كتاب سيرة تقليدياً إلى عمل متكامل لعرض تعاليم أحمد بن حنبل. يبدأ الكتاب بالحديث عن سيرة ابن حنبل ثم ينتقل لعرض جوانب مختلفة من معارفه ومواقفه. فهناك فصل عن أحمد صاحب الحديث وناقد علم الرجال، وفصل آخر عن فقه أحمد مع الاهتمام بنشأة المذهب الحنبلي. وفي فصل آخر تحدث ميلتشرت عن عقيدة أحمد ودفاعه عن المذهب السني وموقفه من المذاهب الإسلامية الأخرى، وقد اعتمد في ذلك على ست عقائد منسوبة إلى أحمد أوردها ابن أبي يعلى في كتابه «طبقات الحنابلة» (لعل هذه نقطة الضعف الوحيدة في الكتاب، فهذه العقائد لا تصح نسبتها إلى أحمد). وينهي ميلتشرت هذا الفصل بالحديث عن المذهب السني بعد أحمد. كما أنه أفرد فصلاً لموقف أحمد من محنة خلق القرآن، وفصلاً لورعه وآخر لفكره السياسي. سبق هذا الكتاب وتلاه عدد من الدراسات التي كتبها ميلتشرت عن أحمد بن حنبل والحنابلة المتقدمين. فمن ذلك دراستاه عن مسند أحمد (2005) وكتاب الزهد (2011). كما كتب مقالة عن خصوم أحمد (1997)، أوضح فيها أنه بالرغم من أن أحمد كان خصماً لعدد كبير من التيارات الإسلامية، مثل الشيعة والجهمية والمعتزلة وأهل الرأي، إلا أن خصومته الرئيسة كانت مع الذين يحاولون عقلنة مذهب أهل الحديث من أمثال الكرابيسي والحارث المحاسبي. وفي دراسة أخرى تحدث ميلتشرت عن أحمد والقرآن (2004)؛ حيث لاحظ أن منهج الإمام أحمد في استنباط الأحكام الفقهية يعتمد بشكل رئيس على الأحاديث وليس القرآن، وبالنسبة لأحمد - كما لاحظ ميلتشرت - فإن القرآن الكريم هو مصدر رئيس لقيم الورع والزهد.
وإضافة إلى دراساته عن أحمد فقد كتب ميلتشرت دراسات قيّمة عن الحنابلة الأوائل. فمن ذلك دراسته عن الحنابلة والصوفية الأوائل (2001)؛ حيث بحث العلاقة بين الحنابلة والصوفية في بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجريين، كما عرض ميلتشرت محنة الطبري على يدي الحنابلة، وكذلك عرض لغلام خليل (ت. 275) وامتحانه للصوفية. كما درس أيضاً البربهاري (ت. 329 هـ) زعيم الحنابلة في وقته ودافع عن نسبة كتاب (شرح السنة) إلى البربهاري ضد الذين يرجحون أنه من تأليف غلام خليل، إلا أن دفاعه في هذه النقطة لم يكن مقنعاً بشكل كافٍ.
وبالنسبة لنشأة المذهب الحنبلي فإن ميلتشرت يرجّح أنها تمت على مرحلتين. المرحلة الأولى عندما جمع تلاميذ أحمد آراءه الفقهية وفتاواه في كتب أطلق عليها اسم «المسائل». أما المرحلة الثانية والحاسمة فكانت على يدي أبي بكر الخلال (ت. 311 هـ) الذي جمع مسائل أحمد ورتبها في كتابه «الجامع لعلوم الإمام أحمد»، وقد تمت هذه المرحلة وتحولت الحنبلية إلى مذهب فقهي رسمي على يدي أبي القاسم الخرقي (ت. 334) الذي وضع أول مختصر فقهي على مذهب أحمد بن حنبل.
كما كتب ميلتشرت عدداً من المقالات عن الحنابلة للطبعة الثالثة من موسوعة الإسلام. لقد كان لأبحاث ميلتشرت فضل كبير في تقدم الدراسات الحنبلية؛ فقد اعتمد على المصادر الأصلية واستفاد من سعة معرفته بالفكر الإسلامي؛ ليضع الأبحاث الحنبلية في سياقها ضمن الموسوعة الكبرى للمذاهب الإسلامية؛ ما يسهل متابعة تطور الفكر الحنبلي. كما أن طبيعة ميلتشرت الزاهدة والتقية جعلته يُعجب بشخصية الإمام أحمد وزهده وورعه، وهو أمر لم يحاول إخفاءه، ففي كتابه يتحدث ميلتشرت عن أحمد قائلاً: «الرجل الذي لم يسمح لداود الظاهري بالدخول مع الباب للبدء في نقاش عقدي ذكي، لن يكون راغباً في الاعتراف بي. إلا أنني يجب أن أعجب به من بعيد. فهو رجل لديه مبادئ وقد التزم بها مهما كان الثمن الذي وجب عليه دفعه».
يعيد ميلتشرت إلى الأذهان مثال العلماء الكبار في إحاطته بالمادة العلمية التي يرغب في دراستها، ومعرفته الواسعة بالعلوم الإسلامية، ودقته المبالغ فيها في تحليل هذه المعارف، إضافة إلى حياديته. وبالرغم من أهمية دراسات نيمرود هيرفوتز فإنه لا يمكن مقارنته بميلتشرت، وهذا أمر سيزداد وضوحاً في المقالة القادمة إن شاء الله.