تصهرنا المحن، تعيد تشكيلنا؛ أرواحا شوهاء، تسلبنا الأمان وتزرع الخوف والعتمة في باقي أيامنا، تبدو الحياة أمامنا غابة مجهول، يفوق تشابكها استيعابنا الواهن، لانعود قادرين على التمييز أو الفهم، نفقد الإحساس بالأشياء حولنا، ونرتطم صباح كل يوم جديد بواقع نعجز عن نسيانه أو الفكاك من سطوته، نضيع بين اليقين وقسوة الشك وجبروة أسئلته؛أين ذهب الأحبة؟!
عندما تغيب الوجوه التي نحب، تجتاحنا وحشة قاتلة تودي باحتمالنا، نستدرك فزعين بحثا عن أمان اللحظة التي تبدو دهرا، لا نرى الا فتيل ضوء شارد واهن تعبث به الريح، خوف وهلع وشعور كثيف لاذع بالوحدة، نعاني كثيرا، نبكي كثيرا، تلفنا ظلمة الزمان والمكان، وتتوقف دورة الحياة أمامنا، شعور جارف حاد بالضياع وشيء يشبه الهذيان.
تهاجمنا جيوش الغضب والإنكار، وأسئلة تعصف بمقدراتنا الذهنية المحدودة؛ لم نكن قبل مصابنا نسألها، لم نعرف بوجودها أو نكترث، لكنها تقفز من المجهول لتصفع انتباهنا، لتباغت سلامنا، لتعبث بجزء هام من وجودنا،بل هو كل وجودنا، لتقودنا إلى أتون جبار من الحيرة والذهول، وسواس خناس لا يتوقف ولايهادن ولايتعب، يحكم على عقولنا قبضته، حتى ليبدو الخلاص أمرا بعيد المنال.
وقبل الانزلاق في الجحيم، تتلقف ضعفنا رحمة العظيم الرحيم، تربت على ذهولنا، وتمنحنا كرم السكينة، تسدل على أرواحنا المضطربة سلام الإيمان واليقين، وليس لنا أفضل من هذا التسليم، فأمرنا وحياتنا وموتنا بيده تعالى وحده، هو القوي القادر السلام الكريم، بهذا الرضا نعيش وبه تستقيم الحياة وتمضي، والا كان الثمن جنونا كالذي عشته زمنا طالت بي حلكته وسطوته حتى أفقدتني طريقي لفترة خلتها دهورا.
هناك مساحة حذرنا القدير من ارتيادها رأفة بنا وشفقة، منطقة شديدة الوعورة، صعبة المسالك، احتفظ تعالى بأسرارها، ومنحنا حق السؤال، وتفضل علينا بالجواب، فيما عداها؛ لماذا نصر على المضي في سبر غيب يملكه وحده ولايدركه غيره، نعود منه - إن عدنا - خاليي الوفاض منهكي القوى متعبي الجسد والروح؟! نتوسل حمى الرحيم وحمايته وقربه وظله.
لن يتوقف الألم، ولن تغادرنا الأحزان، ولن تصفو لنا الحياة دائما، إنها الطريق التي نسيرها منذ آدم وحتى ماشاء الله، وتبقى مشيئة ربك العزيز الجبار، وحكمته من الخلق والموت والمصير، هي الملاذ لكل محاولة فهم وتفسير.
مكه المكرمة